رحلتي غربي النهر/ ج1

جنون فنون على جسر اليهود

هبطت بنا السيارة مسرعة نحو أدنى الأرض، شعرت أننا نحلق على متن طائرة مروحية، والجبال التي تحتضن تلك الطرق المعلقة على سفوحها شاهقة جدا، طرقها تهوي بك كالأفعوانة نحو أخفض منطقة على الكرة الأرضية.

رغم أنني ذهبت مرات عدة الى البحر الميت، إلا أنني كنت كمن يرى تلك الجبال والطرق المعلقة عليها للمرة الأولى، فأنا هذه المرة لن أصل الى البحر، أو أمر عبر تلك الطرق الواسعة والمرصوفة بعناية ومهنية عالية والتي تعبر بك منطقة الفنادق الفخمة والمنشآت السياحية الكثيرة الممتدة على شواطئه.

في رحلتي هذه، يَمَّنا قُبيل البحر الميت لنُعرِّج على قرية (الشونة الجنوبية) ذات الطابع الزراعي البحت، غالبا ما لا تتسع طرق هذه القرية لسيارتين متعاكستين، بالرغم من أنها -القرية- تعتبر طريق دولي! فهي تربط طريق (جسر الملك حسين) وهو المعبر الوحيد الذي يعبره الفلسطينيون القادمون من فلسطين تجاه الأردن وباقي العالم، أو المغادرون، إلا أنه مهمل ملىء بالحفر الخطرة والمطبات العشوائية وضيق ذو طابع زراعي في معظمه.

على المعبر الأردني، والذي يطلق عليه “الجسر” دُققت جوازات سفرنا وتصاريح الإحتلال خاصتنا -الشىء الوحيد أيضا الذي يخول أي فلسطيني الرجوع الى بلده إذا ما غادره يوما، وبفقده هذه الورقة الرديئة الإعداد والصنع والتي تصدر عن سلطة الإحتلال، يصبح لاجئا هائما على وجهه- بعد حصولنا على الأختام اللازمة، توجهنا لركوب حافلات كبيرة كي تقلنا الى الجهة الأخرى من الحدود والتي يطلق عليها (جسر اليهود) فجأة بدأت الحافلة بالإهتزاز الشديد أثناء مسيرها، كان الصوت مرتفعا جدا من تحت عجلاتها، إعتراني الخوف والتعجب، ما هذا الصوت؟! كنا نعبر الجسر فوق نهر الأردن متجهين غربا، نحو فلسطين.

أعلى الباب الرئيس للمعبر اليهودي (جسر اليهود) أو كما يسميه اليهود (جسر نبو) ويقصد به جسر النبي، عُلقت لوحة فنية زيتية تصور فلاح فلسطيني يجلس على الأرض مع آخر يهودي ويتناولان الطعام معاً ومن حولهم الخراف، جسر اليهود كان وكما يبدو بتنظيمه ونظافته مطار فخم، أرضيات لامعة من السيراميك، نظيفة للغاية والمكان مكيف الهواء، أصوات المتحدثات عبر مكبرات الصوت المركزية، تارة بالعربية المُكَسّرة وتارة أخرى بالعبرية، لا وجود للغة الإنجليزية أو غيرها، لكن، رغم نظافة وتنظيم وفخامة هذا المكان مقارنة مع جسر الأردن، إلا أنني صدمت بنوعية التعامل السىء والردىء للغاية من قبل اليهود تجاه المسافرين الفلسطينيين ومن ضمنهم أنا طبعا، وخاصة من المجندات، فالحديث عبارة عن صراخ شديد جدا! أعتقد أنه كان يُقصد منه الإهانه وإثارة الرعب في قلوب المسافرين، على عكس جسر الأردن فالتعامل غاية في الإحترام والدماثة رغم تواضع الإمكانيات.

الأغرب من ذلك كله، هو أن موظفوا الجسر اليهودي ليسوا من الشرطة أو كوادر الأمن العام كباقي المعابر الحدودية حول العالم، بل هم من الجيش اليهودي! كل الذين قابلتهم سواء على فحص الجوازات والتصاريح، أو في أي مكان، هم من الجيش، رجال ونساء، يرتدون بزاتهم البنية العسكرية، وغالبا ما يحملون الأسلحة الرشاشة الأتوماتيكية من طراز BKM أو المسدسات! أحيانا يخطر على بال أحد الجنود فيجلس القرفصاء العسكرية المتأهبة شاهراً سلاحه تجاه المسافرين المصطفين على أحد تلك النوافذ، فيدب الرعب في نفوسهم وخاصة النساء والأطفال منهم، فيبدأ البكاء والعويل من بعضهم، هنا، تقوم المجندة على الجانب الآخر من النافذة بالصراخ في وجه المسافرين المرتعبين وهي تأمرهم بالهدوء والنظر نحوها فقط! لقد شاهدت هذا المنظر بأم عيني، كان موقفا دفعني للتقيؤ نتيجة التقلصات الشديدة التي أصابت معدتي.

مجندات يهوديات يقفن على نافذة أحد الكفتريات في جسر اليهود

مجندات يهوديات يقفن على نافذة أحد الكفتريات في جسر اليهود

تجربة عبور الفلسطينيون خلال جسر اليهود هي من أسوأ التجارب التي قد يمر بها مسافراً فلسطينياً يوماً، تلك شهادة شبه مجمع عليها من كل أولئك الذين تحدثت إليهم أثناء تواجدي بينهم على ذاك المعبر القذر الطباع.

ركبنا الحافلة مجددا كي نغادر جسر اليهود، وإذ بجندي يقف في وسط الطريق متكئا على بندقية أل BKM خاصته وظهره الى الحافلة، كان كما يبدو أنه يقرأ شيئاً، وقفت الحافلة مطولاً، عند نفاذ صبري ذهبت الى السائق وطلبت منه أن يطلق بوق الحافلة كي يتنبه الجندي اليهودي عله يبتعد عن طريقنا، إرتعدت جوانب السائق وقال لي، ماذا؟ هل جننت؟ أتريد منه أن يعيدكم الى الأردن؟ لا نستطيع فعل أي شيء، بل علينا أن نقف هنا ساكنين مهما طال بنا الإنتظار، قد نقف هنا دقائق، ساعات، اليوم بطوله وتتكدس من خلفنا الحافلات، حتى يشفق علينا هذا الجندي الغبي ويبتعد عن طريقنا، أخبرني السائق فيما بعد بأن ذلك التصرف الذي ينم عن العنجهية اليهودية قد يحدث أيضا قبل دخولنا الى جسر اليهود.

لقد وقفت حافلتنا قرابة الساعة قبل أن يتحرك ذاك الجندي جاراً خلفه بندقيته وهو لم يزل يقرأ كتيبا كان يحمله، ثم أشار الى حافلتنا بالمرور دون أن يلتفت إلينا.

يا إلهي! كل هذا التنكيل والرعب والقهر والجنون والحقد اليهودي ولم تتطأ أقدامنا أرض فلسطين بعد!

>>>يتبع

 

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>