إلى إبني الحنون، إجابة السؤال الحاضر الغائب

صورة بشار طافش

لم أُجدِّد لكَ الكتابة بهذه السرعة من قبل، صحيح؟ الحقيقة أن سرعة تواتر الأحداث في منطقتنا العربية باتت كبيرة جداً لم أعهدها سابقا، حتى أيام سبعينيات القرن الفائت التي دشَّنَت فيها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مصطلح خطف الطائرات  لأول مرة في التاريخ حين كنتُ وقتها متطفلاً صغيراً جداً على صدر أمي الحنون، ومنذ مطلع عقد ثمانينات نفس القرن إبان اجتياح لبنان من قِبَل جيش الإحتلال الصهيوني ونزوح منظمة التحرير الفلسطينية صوب تونس وانتشار الكاريكاتير المؤثر لناجي العلي، اشتقتلك يا بيروت، حين رسمَ وقتها فدائي فلسطيني وهو يسبحُ عائداً إلى بيروت بعد أن قفز من السفينة التي كانت تُقِلهم صوب تونس قبل أن تبتعد عن مرفأها، ومنتصف العقد حين نفذ حزب الكتائب اللبناني بأمر من اليهود مجزرة مخميّ صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين المروعة التي فاقت فظاعاتها حتى خيالات مخرج أفلام القهر والرعب ألفريد هتشكوك.

 

لم أشهد أحداثاً متسارعةً مُذًّاكَ، أَتدري أمراً؟ تلك الأزمنة المروعة كنتُ أشعرُ بها دون أن أدرِكَها بعدربما أنك لم تنسى بأنني ذيَّلتُ رسالتي الأخيرة لك بالسؤال الغائب الحاضر الذي كانت فحواه، لماذا نحن العرب الذين يجب عليهم دائما تقديم التنازلات لليهود مقابل التطبيع معهم، ويجب علينا أن نمنحهم هذا التطبيع مجاناً رغم أنهم هُم مَن يتوقُ إليه توقَ التائه في الصحراء لشربة ماء، لماذا؟ وتركتُ لك وقتها يا حبيب عمري حيزاً زمنياً  كي تتمحص الإجابة الصعبة.

أنا أعلم أنك وجدتَ الإجابة أخيراً دون أن تُدركها، تماما مثلي أنا عندما كنتُ في سنك تقريبا وقتَ اجتياح لبنان، وزمن الحرب الأهلية وأيام مجزرة صبرا وشاتيلا المروعة هناك، حين كنتُ أجلسُ مع أمي وأبي أحيانا أو أصدقاء العائلة المقربين وهم يستمعون إلى الأخبار من إذاعة الشرق الأوسط من القاهرة، أو من هيئة الإذاعة البريطانية BBC كما كانت تسمى وقتها، حين كانوا يتناقشون حول تلك الأخبار والأحداث المُشبعة في الإجرام والبشاعة والتي لم أفهمها وقتها،  كنتُ أسمع ليلاً حين أخلد إلى النوم وقع أقدام أولئك القتلة المجرمين الذين نفذوا مجزة المخيمين وهم يتسللون حول بيتنا الريفي البسيط الذي كان وحيداً خارج قريتنا بفلسطين، في أحد المرات سمعتُ وكأن سكيناً وقع من أحدهم، بقيتُ وقتها حتى بزوغ الشمس وأنا لا أقوى على التقلب في فرشتي خوفا من أن أصدر أيُّ صوت، لكن عقلي الباطن احتفظ بكل تلك الأحداث والتهيئات كما يحتفظ البنك بالذهب في صناديق خاصة لا يفتحها إلا العميل نفسه وقت شاء ذلك، وها أنا ذا أفتح لك بعض هذه الصناديق.
لا أخفيك أن تلك الأحداث والتهيئات فترة الثمانينيات تلك، والتي لم تكن مفهومة بالنسبة لي شكَّلت جزءً لا يُستهان به من عقليَ الباطن ومن شخصيتي، ربما أن تلك الأحداث جعلت من شخصيتي غريبة إنطوائية بيتوتيَّة محدودة العلاقات، وجَعَلت مني غير مقبول بالمرة لكثير من الأناس الذين قابلتهم في حياتي، في المدرسة والحارة والجامعة والعمل، ربما؟ لكن لا يهم، يبدو أن الأُناس العاديون هم الذين يكونون مقبولين لدى كل هؤلاء الناس، وهؤلاء العاديون يتفننون في بناء الكثير من العلائق التي تفيدهم في حياتهم وتفتح لهم الكثير من الأبواب التي تجعل حياتهم أسهل بكثير من حياة أمثالي، أما أنا فلم أبرع بذلك صراحة.
المهم يا حبيب عمري لِنُقارن الآن بين إجابتينا حول السؤال، أنا قسَّمتُ الإجابة إلى قسمين اثنين
الأول هو أن الأنظمة العربية التي أبرمت تلك الإتفاقيات مع دولة الكيان الصهيوني، أو بالأحرى زعماء تلك الأنظمة من أبرموا تلك الإتفاقيات لأنهم كانوا يعيشون حالة من حالات فرعون، هؤلاء الزعماء لم يكونوا معنيين بالمرة بمصلحة شعوبهم حين أبرموها، كما لم يكونوا معنيين بمن احتُلت أرضهم مِن قِبَل أولئك الذين أبرموا معهم تلك المعاهدات وبالتالي شُردوا في أرجاء الأرض كلاجئين وقُتِّلوا وذبح أبنائهم ونسائهم واقتلعت اشجار زيتونهم وصودرت مزارعهم وهدمت منازلهم، هؤلاء الزعماء أبرموا تلك الاتفاقيات من منظور المصلحة الشخصية الضيقة، وفي أحسن الأحوال من منظور مصلحة الجماعة الضيقة التي يرون أنها هي فقط مَن يحق لها أن تستمر في حكم البلد، فهناك عوائل تحكمنا، وهناك عسكر يحكموننا وما إلى ذلك من تلك الجماعات التي تحكمنا وتحكم بلادنا العربية، لكنها اتفقت منذ عقود على العمل ضد القضية الفلسطينية التي كان يجب أن تكون بوصلتهم كما هي بوصلة شعوبهم، أعلم أنك تحتاج إلى أمثلة.
سيكون المثال من منظورين مختلفين، الأول من منظور تلك الأنظمة المصلحجية، والثاني من منظور أنظمة أَبرمت إتفاقيات مماثلة مع اليهود لكنها وضعت نُصب عينها مصلحة البلد ككل، المنظور الأول، لاحظ مثلا عندما أبرم السادات رئيس مصر السابق معاهدة كامب ديفيد مع دولة الكيان، لم يكن في خاطره الشعب المصري بالمرة، بل كان خاطره موجه نحو ضمان حكم العسكر إلى أطول فترة ممكنة بدعم من الصهيونية، ومِن ثم جعل مصر غنية بمساعدة العدو المحتل، تصور كيف يفكر، لكن نجده قُتل في النهاية وأُفقرت مصر وها هي اليوم يتم تعطيشها، فمثلا إسرائيل تتصرف مع الشعب المصري منذ تلك الإتفاقية وكأنه عدوها الأول، فهي سعت لتعطيشه بعد تجويعه من خلال دعم وتمويل سد النهضة الإثيوبي، وهي ستشرع الآن ببناء السد الأثيوبي الثاني، سد كازا، حتى منظمة التحرير الفلسطينية عندما أبرمت إتفاقية أوسلو كان هدفها الأكبر هو فقط وقف الاستيطان ولا شئ غير ذلك، وما نجده اليوم أن الاستيطان تضاعف مرات عدة وأصبح كل قادة المنظمة موظفين لدى سلطة الإحتلال وتحول معظم الشعب الفلسطيني بالداخل بفعل المنظمة إلى شعب يلهث وراء تدبير قسط البنك الذي اقترض منه للزواج والبناء ونسي المقاومة، الإتفاقيات العربية الإسرائيلة تبدو وكأنها تعمل ضد شعوب تلك البلدان ولمصلحة المحتلين اليهود وتلك الأنظمة، لا يوجد أي فائد ملموسة للشعوب حتى اللحظة ولن يكون بالمرة.
المنظور الثاني، هو مثال تركيا، مثلا أبرمت الأخيرة إتفاقيات مع دولة الكيان الصهيوني، وأنا بالمناسبة أرفضها شكلا ومضمونا، لكن بالمقارنة نجد أن تركيا أبرمت تلك الإتفاقيات التي لم تكون اتفاقيات سلام من منظور مصلحة الشعب التركي، والدليل أن هناك مكاسب هائلة لتركيا من خلال التصدير حتى أنها صدرت الماء للكيان الصهيوني ويوجد مصالح متبادلة لا يمكن لدولة الكيان المساس بها وإلا تنهار كل الإتفاقيات، فقد وصل التبادل التجاري مثلا بينهما إلى 2.1 مليار دولار سنويا مما ساعد بنمو التجارة الخارجية لتركيا بنسبة بين 11 و 15 بالمئة سنويا، بينما ما يزال الميزان التجاري مائل لصالح تركيا.
القسم الثاني من الإجابة، هو أن إسرائيل لا تقدم تنازلات للأنظمة العربية التي تُبرم معها إتفاقيات لأنها أصلا لا تعبأ بهذه الإتفاقيات، لأنها تعلم أنها هي القوية وهم الضعفاء، وهي تعلم أيضا أن تلك الإتفاقيات لا تعدو كونها مع أنظمة تعادي شعوبها وتعمل ضدها، وهي تتركز فقط حول إعطاء ضمانات لهذه الأنظمة باستمرار حكمها لا أكثر، وبالتالي على هذه الأنظمة تقديم التنازلات والمزيد منها دائما قبل وأثناء وبعد الإتفاق، في الحقيقة إسرائيل كانت وما زالت تتطلع صوبَ غسل أدمغة الشعوب العربية وجعلها ككيان محتل مقبول لديها، وهذا ما لم تُفلح به طوال سبعون سنة من الإحتلال، هذا إذا أضفنا طبعا مساعدة أنظمتنا السخية لها والتي كانت في السابق من تحت الطاولات، أما الآن فصارت على المكشوف جهارا نهارا كما تعلم.
لقد أطلتُ عليك أعلم ذلك خاصة وأن تلك القضايا لا يمكن بحثها في رسالة، سامحني بني غير أنني بذلتُ جهداً مضنياً كي أختزل لك بعضاً من هذه الأحداث والتحليلات التي قد تساهم بعض الشئ في صناعة جزء من عقلك الباطن مستقبَلاً حسب ما أعتقد لتكون إنسان غير عادي حين تكبر، فالأُناس العاديون كُثُر بارك الله فيهم، فهم مرتاحون أكثر منا نحن، وحياتهم أهدأ بكثير من حياتنا، وسيغادرون هذه الدنيا التافهة بسلام ربما دون أن يكترث لمغادرتهم  أحد سوى دائرة الأقارب والمعارف مهما اتسعت أو كبُرت تلك الدائرة.
تحياتي الحارة لكما

الرسالة السابقة على الجزيرة نت

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>