وصلت سرعتي حداً جنونياً، أذكر وقتها أنني تخطيت عدة مركبات كنَّ مسرعات جداً وسط ذهولٍ شديدٍ مني “ماذا؟ كيف أسبق تلك المركبات بهذه السهولة، يا إلهي!…هل أصبحت خارقاً؟! أين أصدقائي وزوجتي وأولادي كي يرو ماذا أفعل..يا إلهي كم هي سعادتي بالغة؟”.
كنت منتشياً بتلك السرعة الخيالية التي بلغتها جرياً على ذلك الطريق الممتد الذي بدى لي لا نهائياً البتة، عندما صدح ذاك الصوت القوي من خلفي “هِييّ أنت..” وقفت كمن تَسَمَّر في مكانه فجأة، وقبل أن ألتفت خلفي لأرى صاحب الصوت، وإذ به صديق عزيز على قلبي -حقيقةً لم أتمكن من تذكره جيدا- المهم أنه كان صديقاً عزيزاً جداً عليّ، حيث قال لي: يا رجل ما بك، هل جننت؟ وقعت منك محفظتك وتلك الأوراق المهمة وأنت لا تدري، إنظر ماذا وجدت بينها، إنه جواز سفرك يا رجل!.
عدت للجري مجددا بتلك السرعة الكبيرة مع إنتشاءاتي، لكن لم يعد هناك سيارات أو أي شيء، بل فراغ مخيف دفعني لصعوبة بالغة في التنفس، وأحسست أن رأسي سينفجر وأن دماغي يزاحم للخروج من أذنيّ وأنفي، لم أعد أحتمل تلك الآلام والرعب، فأخرجت ورقة من جيبي كتب عليها “أرجو أن لا تنسى رواية مئة عام من العزلة” فجأة بت أشعر بتلك المشاعر المتضاربة من الألم والخجل والرعب، ماذا أفعل؟ وبدأت أصرخ بشدة حتى اختفى صوتي وجرح حلقي:
ليساعدني أحدكم..
ليساعدني أحدكم..
أرجوكم أريد أن أصل إلى المتجر بأسرع ما يمكن
أرجوكم، مئة عام من العزلة..مئة عام من العزلة..غابرييل ماركيز..غابرييل ماركيز
كم كانت فرحتي بالغة عندما وقفت بمحاذاتي تلك المركبة الفارهة المصفرة اللون، وبصوت أجش من داخلها “هيا إركب بسرعة لم يعد هناك المزيد من الوقت” ركبت المركبة وكأنني لم أكن قبلاً أعاني من أي ألم أو خجل أو رعب! شعرت أنني لم أجلس على كرسي، بل دخلت به وغمرني، كان وثيراً مريحاً، استرخيت حد الخدر والنعاس قبل أن يقهقه السائق على حالي تلك، ثم أدار أغنية “We’re like diamonds in the sky“.
رغم أنني كنت من العجلة بمكان، إلا أن السيارة كانت تسير ببطء شديد، رافق ذلك كله سعادة غامرة مني مع ذاك المقعد الوثير وتلك الأغينة الرائعة التي كنت أردد كلماتها مع المغنية “Shine bright like a diamond…Shine bright like a diamond…” كانت تبطىء السيارة بمسيرها أكثر فأكثر، وكانت سعادتي تزداد رغم ذلك، ما هذا؟! كانت الأغنية تسحرني وأردت وقتها أن أتخلص من سحرها..كان الأمر صعباً كمن يريد أن يصحو من كابوس مرعب لكن دون جدوى، كان أمراً جنونياً، قاومت سعادتي ونشوتي الجامحة تلك، وأردت أن أترجل من المركبة وسط قهقة السائق وتلك الأغنية الساحرة التي بدت شيئا ملموساً حاول منعي من فعل أي شىء كل شيء، حتى التفكير بمئة عام من العزلة وماركيز…ترك السائق دولاب القيادة وأدار جسمه بالكامل نحوي ولم يزل يقهقه، الأغنية الساحرة تُشعل أحاسيسي حد الذروة، عقلي يقاوم، وقلبي يخفق بشدة، يداي ترتجفان، السيارة تسير وحيدة دون هدى…لكنها كانت تتجه نحو نهر بدا لي من بعيد، يعلوه جسراً بقنطرتين من الحجر البارز ذي لون أصفر باهت، وضعت كلتا يدي على وجهي ورفعت رأسي واستجمعت بعضاً من قوة وصرخت “أرجوك إلتفت للقيادة، المركبة في طريقها إلى النهر وأنا يجب أن أصل بسرعة مئة عاااااام من العزلة”.
رأيت الشمس تتلهف للمغيب خلف الجسر، والغيوم كانت تتلبد متجهمة فوق القنطرات، عكست صورة مخيفة على ذاك النهر الساكن الذي لم تزل تسير المركبة نحوه ببطء، السائق يقهقه، والأغنية تصدح الآن داخل كياني، أناساً يتجمعون فوق الجسر من كلا الطرفين، يرتدون جرائد ورقية مُصفرّة باهتة، بعضاً من نسوة يرتدين قبعات طويلة صنعت من صفحات تلك الرواية التي أنشد، ضحك بعضهن وهن يُشِرن إليّ بأصابعهن ويصرخن “انظرن..المركبة التي تتجه نحونا من جرائد ورقية” قالت أخرى “إنظرن..حتى دواليب المركبة من الجرائد”.
تخلصت بصعوبة بالغة من المقعد الوثير المريح، ونهرت تلك الأبخرة التي كانت تشعرني بالسعادة، كانت كلمات مغناة من تلك الأغنية الساحرة، لمستُها بيديَّ وكانت تتبدد تلك الكلمات فور لمسها، حاولت أخذ بعضاً منها لكنها تلاشت، فتحت باب المركبة ونزلت في النهر، بينما بدأت مركبة الجرائد بالذوباون والتفكك، كان النهر ساكناً دافئاً تتصاعد منه أبخرة عطرة، سبحت دون أن أحرك ساكناً حتى وصلت تحت القنطرات لأبدأ بتسلق حجارتها التي كانت تنغرس أصابعي فيها بسهولة، تلك الحجارة كانت عبارة عن طبقات وطبقات من جرائد قديمة مصفرّة باهتة، نظرت إلى أعلى حيث كن ثلاثة نسوة يمددن برقابهن من على الجسر كي يراقبن ما أفعل، كان ثلاثتهن ممن يرتدين تلك القبعات الورقية، وبدأت تتطاير صفحات مئة عام من العزلة من على رؤوسهن، لم أكن أستطيع الكلام، لكني أومأت لإحداهن كانت تبتسم لي، بأن تحتفظ ببعضٍ من قبعتها حتى أصل، لكنها لم تزل تبتسم وقبعتها تتطاير ورقة إثر أخرى.
عندما وصلت سقف القنطرة والنسوة يشهدن ما أفعل، أشارت لي إحداهن بالنظر لبعيدٍ خلفها، كان بستانا شاسعا من شجر جميل مُزهر بزهر أبيض، أشجاراً شكلت صفوفاً طويلة جدا كانت فائقة الدقة والترتيب، جعلت أمشي تحت تلك الأشجار، كانت الأرض من تحت قدميّ غير ثابتة، تفحصتها لأجدها هي الأخرى طبقاتٍ وطبقات من جرائد ورقية مصفرة قديمة، رفعت رأسي عالياً لأجد الأشجار هي الأخرى جرائد ورقية مصفرة قديمة، كان عالماً من جرائد ورقية مصفرة، الغيوم في السماء، والطيور المحلقة في الجو وتلك التي تنقب على الأرض، الأيائل من بعيد، تلالاً هناك، عليها بعضاً من أكواخ تطاير من مداخنها ورقاً أصفر باهتاً أيضاً، الحشائش والنباتات من تحت قدمي، الخنافس ودابة الأرض…كل شىء ورقي…يا إلهي! لا…لا…لا أريد أن أُورِد الفكرة على رأسي حتى، ولا أريد أن أتخيلها…هل أنا ورقيٌ أيضاً، هل أنا من جرائد مصفرة قديمة؟
بدأت أجري بجنون في عمق البستان، لا، أريد أن أعود إلى عالمي، أين عالمي؟ نعم، نحو النهر ذو الأبخرة العطرة، قفزت في الماء، وصَرَخَتْ من خلفي إحدى تلك النسوة الورقيات “هييّ، هل حصلت على مئة عام من العزلة؟” كانت المسافة طويلة جدا من أعلى الجسر حتى النهر، نظرت إليها ولم أزل في الهواء وكاد قلبي يُنتزع من صدري وأنا أصرح “مئة عااااااام من العزلة” لكن، ومن هول صدمتي بِجُبْني الذي أنساني الحصول على تلك الرواية، وجدت نفسي في النهاية وقد ارتطمت بقوة على أرض قاسية جدا بدل أن أغوص في نهر الأبخرة ذاك، ولولا أني صحوت من حلمي لتناثرت إلى قطع صغيرة، كنت قد وقعت عن سريري أرضاً ووجهي إلى أسفل.