أوجه من فسادنا في الأردن

أوجه من فسادنا الأخلاقي
أحد صباحات مارس الباكرة نزلتُ من شقتي في الطابق الثالث هرولة، رغم وجود مصعد؛ إلا أن تأخري عن موعد نهوضي صباحا أنساني المصعد نهائيا، في عمّان صباحاً فإن خروجك من المنزل متأخراً خمسة دقائق من شأنه أن يزيد مدة تواجدك داخل أزمة السير نصف ساعة إضافية وأحيانا أكثر، وهذا بحد ذاته طامة كبرى بل مصيبة ما بعدها مصيبة على مستوى العمل.

أدرت محرك سيارتي، وخرجت من المرآب وكأن الشارع أمام المنزل يخلو من المركبات، كنت أصارع الطريق محاولا تقليص وقت تأخري عن العمل حين مررتُ برجل من جامعي الخردة والذين ينتشرون في عمّان بشكل ملفت ويبحثون في القمامة عن الكرتون وعلب المشروبات الغازية والبلاستيك وأسلاك النحاس وغيرها من الأشياء التي لها ثمن في سوق الخردة، أذكر أن الجو كان عاصفاً بعض الشئ وهذا الشخص وجد فريسة من جيف أكياس القمامة الملقاة حول حاوية تبدو فارغة، حيث كان يشُق الكيس البلاستيكي ويفرغ ما في بطنه من قمامة على الأرض عله يجد فيه علبة مشروب غازي أو ما شابه، إستمر في فعل ذلك حتى أتى كما يبدو على باقي الأكياس، في هذه اللحظة لم أتمالك نفسي حين كنت أتابع ما يفعله من خلال المرآة الوسطية لسيارتي حتى اتخذت قراراً مميتاً بالنسبة لي وهو أن أعود أدراجي لأضع حدا لهذا المِعْوَز الفاسد، وبالفعل عدت أدراجي عبر الأزمة الخانقة مرة أخرى مضحياً بوقتٍ أبكر لوصول العمل وما إن اقتربت من المكان حتى وجدت الشخص وقد غادره مخلفا قاذورات هائلة لفظتها بطون الأكياس التي بَقَرها وساعدت على انتشارها تلك الريح العاصفة، لقد أحال هذا الشخص حيا كاملا لما يشبه مكب للنفايات فقط ليبحث عن عُلبة مشروبات غازية، لماذا لم يُفرغ ذاك المعوز تلك الأكياس في الحاوية التي كان يتكئ عليها؟ للحظة لم أتمكن من أن أجد جوابا شافيا.

في أحد المرات مررتُ بسيارة وقد علق دولابها الأمامي في في حفرة عميقة جدا وسط الطريق، ركنتُ سيارتي يمينا وذهبت تجاهها، كان يبدو على صاحبها وقد لامس السبعين من عمره، وإذ بالحفرة عبارة من مُنهل صرف صحي دون غطاء، وما هي إلا دقائق حتى توقَّفت خلف سيارتي سيارة أخرى ثم أخرى ليقدموا يد المساعدة الممزوجة ببعض الفضول، بينما كنا نحاول إخراج دولاب السيارة من المُنهل، كان آخر يتصل بسائق رافعة “وِنش” كما نسميه في الأردن مستوضحا منه عن حل للمشكلة، سمعتُ آخر وهو يتذمر قائلا “حسبي الله عالهمل الحرمية إللي بسرقوا أغطية المناهل بالليل، حسبي الله عليهم” وباستفسار بسيط مني اكتشفت أن مسألة سرقة أغطية المناهل ليلا غدت لتصبح ظاهرة منتشر في البلد!.

فساد خفيّ
 قد يضرب معلم تلميذاً في أحد المدارس، في الغالب ستجد عزيزي القارئ أن أهل وذوي هذا التلميذ يتوجهون لمديرية التربية والتعليم في منطقتهم أو ربما يتوجهون مباشرة إلى الوزارة لتقديم شكوى بحق هذا المعلم، بينما المفروض أن يتوجهوا للمدرسة ويقابلوا هذا المعلم ليستوضحوا منه عن السبب الذي دفعه لضرب إبنهم، رغم أنني ضد الضرب في المدارس جملة وتفصيلا، لكن هذا هو التصرف الناضج من أهل يهمهم قبل كل شئ إبنهم وبنيته النفسية مستقبلا، ألا يعتبر تصرفهم فساداً أخلاقياً؟ تلك الأم التي تطلب من إبنها إخراج أكياس القمامة من المنزل وتشاهده وهو يُلقي الكيس تجاه الحاوية من بعد وكأنه يلعب كرة سلة ولا توجهه أو تنهره عن هذا الفعل المشين، ألا يعتبر ذلك فساداً؟ الفساد يا أخوة لا يعني فقط إختلاس وسرقة المال العام كما نعتقد، الفساد قد يتمثل بذاك المعوز جامع الخردة وسارق أغطية المناهل وهذه الأم الجاهلة، وقد يكون موظف حكومي ملتزم في دوامه ويصلي بأول الصف ولكنه يتعامل بفظاظة مع المراجعين ويعطل مصالحهم، قد يكون موظف في مصلحة الجمارك ويعطل شحنة بضاعة فقط لأنه يحسد التاجر على ماله، أو يريد منه مبلغ معينا من المال كي ُيفرج له عن بضاعته، تخيل أن أمثال هؤلاء الموظفين الفاسدين أخلاقيا موظفين في هيئة الإستثمار أو وزارة الصناعة والتجارة، وما أكثرهم والذين يتسببون بهروب المستثمرين والتجار إلى خارج البلد وبالقانون، ألا يعتبر ذلك فساداً؟.

نحن شعب فاسد بالفطرة
من أين يأتي أمثال هؤلاء الموظفين الحكوميين؟ من أين يأتي هؤلاء الوزراء والمدراء والمسؤولين الذين لا يكلفون أنفسهم عناء التخطيط والعمل الجاد الذي يكون دافعه مصلحة البلاد والعباد؟ من أين يأتي رئيس الوزراء الذي يقتصر مجمل عمله على الموافقة على زيادة الضرائب والبحث عن ضرائب جديدة منفذا بذلك سياسات إقتصادية يُمليها عليه وعلى حكومته موظفوا البنك الدولي وصندوق النقد؟ من أين يأتينا رئيس وزراء مماثل ليس لديه برنامج بالمرة؟ من أين يأتينا وزير لا يملك تصور عن وظفته ومستقبل وزارته ومشاركتها الفاعلة في التخفيف عن كاهل المواطن؟.

عزيزي القارئ الأردني، رغم أن رئيس وزرائنا ووزرائه يأتون علينا بالبراشوتات دون برامج أو منافسة حقيقة فقط من خلال معيار المحاصصة ومعيار الشخصيات أو معيار إبن فلان وعلان، وبعيدا عن معايير البلدان المتقدمة في اختيار وزرائها ومسؤوليها الحكوميين المبنية فقط على الكفاءة والبرامج والخبرة الحقيقية، إلا أنهم أيضا كوزراء وكحكومة هم نتاج الشعب الأردني الذي تربى عالفساد والمصلحة الفردية والعشائرية والجهوية من صغره، هم من شعب كباقي شعوب العرب بعيدين كل البعد عن الإنتماء الحقيقي للوطن وبعدين كل البعد عن الوطنية، مشكلتنا في الأردن أننا شعب فاسد، الفساد ليس صفة تمتاز بها حكوماتنا فقط، نحن شعب فاسد بالفطرة.

يوجد فساد ولا يوجد فاسدين
هناك قول لأحدهم برأيي أنه لخَّص وضعنا الأخلاقي في الأردن، وهو أن الشئ الذي لا تطاله يد الأردني وتطاله يد غيره يَعتبره حرام، وعندما تطاله يده هو يُصبح حلال، أو كما قال المستعرب الياباني نوبواكي نوتوهارا في كتابه “العرب وجهة نظر يابانية” والذي لخص فيه خبرة أربعين عاما عاشها كدبلوماسي متنقلا بين بلاد العرب، حين قال “العرب متدينون كثيراً وفاسدون كثيراً” وحين قال أيضا رئيس الوزراء الأسبق د.عبدالله النسور في خطاب له أمام مجلس النواب الأردني “يوجد فساد في الأردن ونحن نعترف بذلك، لكن لا يوجد فاسدين!” أي أن الفاسد يمارس فساده بالقانون، هذا حالنا نحن الأردنيون بالضبط شعب وحكومات ومسؤولين.

كل الأردنيين على الإطلاق يتذمرون ويتحدثون عن الفساد والفاسدين والمفسدين، كل الأردنيين ينتقدون أولئك الذي يرمون القمامة من نوافذ سياراتهم، وأولئك الذين يتركون المتنزهات خلفهم كمكب للنفايات، وأولئك الذين يغشون في تجارتهم وبضاعتهم، وأولئك الذي ينظرون إلى البلد ومصلحتها فقط من خلال مصلحتهم، إذا، من هم الفاسدين، إذا كان كل الشعب الأردني ضد الفساد؟! هل هم من خارج البلد؟ طبعا لا، هم أردنيون ولكنهم كالجمل الذي يرى إعوجاج رقاب باقي الجمال ولا يرى إعوجاج رقبته ولا يعلم عنه أصلا!.

إذا التغيير الحقيقي عزيزي الأردني بسيط للغاية، حتى إن أردنا أن نحرر فلسطين، والنصيحة لي قبل أي أحد، وهو أن نركز على أنفسنا وأن نغير بها أولا ثم نشئنا من الأبناء وأسرنا، أن نكون مؤثرين فيمن هم حولنا من الجيران أو زملائنا في العمل أو أصدقائنا على مواقع التواصل الإجتماعي، وأن لا نكتفي بالتذمر، التذمر وحده لا يكفي أبدا، لا تتقدم الدول والمجتمعات بالتذمر فقط بل بالتغيير والعمل الحقيقي، يجب أن نبدأ بالعمل على التغيير ونغير من أنفسنا أولا ثم أبنائنا وأسرنا ومن هم حولنا، مشكلتنا أخلاقية قبل كل شئ والمسؤولية مسؤولية الجميع أعزائي.

نشر على صحيفة العربي الجديد في 18/مايو/2018

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>