إلى إبني الحنون “6”/ أنا والناسك

بُني الحبيب، بحر الأسبوع الفائت ذهبتُ إلى شيخٍ ناسكٍ أسأله، في الحقيقة أيام المطر لطالما شددتُ الرّحال في أوقات مضت إلى ذاك الجامع الحجري الأثري الصغير الذي يتكئ وحيداً على كتف شارع زراعي أيام كنا عائلة واحدة حين كان يزورني الهم والغم وضيق النّفْس كالعادة، كنتُ أجلس وحدي في هذا الجامع الذي يستقبل مُصلي أو اثنين على الأكثر، كان هادئاً وساكناً، كنت لا أسمع سوى حفيف الشجرة التي بدى أنها نبتت صدفةً على يمين الجامع وكأنها تحتضنه في وحدته تلك، ذاك السكون الذي كان يُبعد همومي عن فكري وأنا أجلس ملتصقا بالحائط البارد مغمضا عيناي، كان يبدده صوت شاحنة أو مركبة، وهي تعبر كل ساعة من الزمن الطريق خلف الجامع قبالة نتوء المحراب.

كنتُ عندما أشد الرحال صوب هذا الجامع، غالبا ما أجد ناسكاً وهو يجلس في زاويته المعتادة القريبة من المحراب بذقنه الحمراء المنكفئة على صدره وعمامته البيضاء التي يتدلى آخرها من تحت اللفة طويلا حتى أسفل ظهره وهو يقرأ القرآن، مُضفياً بمنظره ذاك على المكان مزيدا من السكون والوقار، كان ذلك منذ سنوات بني الغالي، هذه المرة ذهبتُ إلى الجامع الوحيد كي أكلّم هذا الناسك في مرة كانت هي الأولى وأسأله السؤال، فأنا لم يسبق لي وأن دار بيني وبينه أي حديث، رغم أننا كنا نجلس في الجامع لساعات ونصلي أحيانا سويا عندما يحين الفَرض.

ذهبتُ بني لأسأل هذا الناسك سؤالا ظل يراودني طويلا، ففي كل ركعة أدعو الله أن يَرُدّ أولادي إليَّ رداً جميلاً، السؤال، هل هذا يؤثر على صحة صلاتي؟
أحيانا أقرر قبل أن أبدأ الصلاة بأن أتوقف هذه المرة عن تكرار هذا الدعاء، لكنني بني الحبيب لا أنفك أنسى فعل ذلك في كل مرة؛ توجستُ ريبة من أن يتحول دعائي إلى جزءٍ من صلاتي دخيل فيبطلها.

وجدت الجامع وكأنه ينتظرني منذ زمن، كان قد كُسر فرعٌ من الشجرة أيضا ولكنها ما زالت حيةً تحتضن جامعها، وكما في السابق وجدت الباب مغلق لكنه لم يكن موصد، فتحته ودخلت وشممت ذات الرائحة التي كانت توحي لي بقدم هذا المكان، بدا ذلك وكأن أحداً لم يدخله منذ زمن بعيد، بعيد جدا، كان الغبار يغطي كثيرا من الأسطح  ورف المصاحف الوحيد، جلست في ذات المكان الذي لطالما جلستُ فيه في السابق، وأسندت ظهري ورأسي إلى الحائط البارد من جديد.

انتظرت طويلا ولم يظهر الناسك أو يأتي، أين الناسك وما الذي حلَّ به؟ لم يدخل أحد إلى الجامع، وبقيتُ حتى المغيب، وصليت فرض المغرب وحيداً على ضوء هاتفي النقال، فلا يوجد تيار كهربائي في المسجد، وكما تعلم بني فالفصل شتاء وتغرب الشمس تماما في هذا الوقت، ويصبح الفضاء معتماً، توجَّستُ ريبة مرة أخرى، ورجف فؤادي في صدري بشدة، واقشعَرَّ بدني وأنا أقف أصلي وحيداً وسط هذا السكون العميق والعتمة، تركتُ الجامع ورحلتُ دون إجابة، ما إن انتهيت من صلاتي.

تحياتي لك

نشر على هفنغتون بوست/عربي

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>