لماذا تلجأ حكوماتنا للعبث بالنار؟

نار مشتعلة

غالبا ما تمر الحكومات بتحديات صعبة للغاية، بل إن الحكومات يبدو وكأنها وجدت لتصارع تلك التحديات، والملاحِظ الفاحِص يجد الحكومات أبداً بين خيارات غالبا أحلاها مر، كل حكومات العالم تقريبا، حتى حكومات تلك البلدان الغنية والمتقدمة، حتى حكومات البلدان التي ليس لها هم سوى زيادة ترف مواطنيها ورفع مستويات رضى دافعي الضرائب لديها ورفع مستوى معيشتهم، حتى تلك البلدان تمر بتلك الصعاب وخاصة المالية منها.

وقف سيناتور في أقوى دولة إقتصاديا في العالم يخطب بمؤيديه قائلا “لقد دمرت الحكومة الأمريكية الطبقة الوسطى وسحقتها لصالح أغنياء وول ستريت” هذا السيناتور يعيش في دولة من أغنى وأقوى دول العالم وتحكمها المؤسساتية وتسري سيادة القانون في عروقها سريان الدم في الشريان، ويسود جو عام من الرضا بين دافعي الضرائب من شعبها، إنها أمريكا التي تأتي في المرتبة السادسة عالميا ضمن جدول ترتيب نصيب الفرد من الناتج المحلي اﻹجمالي حسب تقرير البنك الدولي في 2016، والذي وبكل إختصار يؤشر على مستوى القوة الشرائية لدى الفرد الأمريكي على مستوى العالم، ثم يأتي هذا السيناتور ليظهر عدم رضاه عن أداء حكومة بلاده خلال نفس السنة!.

إذا، ماذا نقول نحن أو نفعل في حال وأحوال بلداننا العربية، وحال وأحوال حكوماتنا ومسؤولينا الذين لا يفقهون شيئا عن اﻹقتصاد وأعناق الزجاجات واﻷزمات اﻹقتصادية والمالية وعجز الموازنات سوى فرض الضرائب واللجوء دائما وأبدا إلى جيب المواطن؟! ماذا عسانا نخطب ونقول في حشود من الجياع والمعدمين والمقهورين ماذا عسانا نخطب؟.

أعلنت ألمانيا خلال موازنة 2017 عن تخصيص 20 مليار دولار لدعم اللاجئين، بينما لم نشهد تلك المعارضة ولو البسيطة لهكذا قرارات، أو مظاهرات في الشوارع، بالرغم من الأزمات اﻹقتصادية التي يعاني منها اﻹتحاد اﻷوروبي، لكن لماذا؟ في الحقيقة يعي المواطن الألماني أن حكومته حتى في حالات الدفع فإنها تسعى للمصلحة الوطنية، فالحكومة الألمانية تدرك تماما ما تفعله عندما تعود أل 20 مليار دولار هذه مرة أخرى إلى دعم اﻹقتصاد اﻷلماني والمشاركة الفاعلة في تحريك عجلة اﻹقتصاد، فهذا اللاجىء سوف يشتري السلع والخدمات، ويشتري الطعام ويسكن ويستخدم المواصلات ويدفع الفواتير، إذا ستعود تلك الأموال مرة أخرى إلى اﻹقتصاد ولكن هذه المرة مع تلك القيم المضافة المترتبة على المزيد من اﻹستهلاك لتلك السلع والخدمات.

إن الحلول التي عادة ما تلجأ إليها حكوماتنا من فرض للمزيد من الضرائب التي تهلك جيب المواطن، وبالتالي تؤدي إلى إنكماش إقتصادي يضر بالوطن وإقتصاده، فزيادة الضرائب يعني الزيادة في أسعار السلع والخدمات، اﻷمر الذي يؤدي في النهاية إلى اﻹحجام عن اﻹستهلاك وبالتالي اﻹحجام عن الشراء أو في أفضل تقدير يلجأ المستهلك إلى تقنين مشترياته نظرا لارتفاع الأسعار، وهنا ستقل إيرادات الخزينة نظرا ﻻنخفاض العوائد الضريبية بينما المرجو هو زيادتها! هذا علاوة على تدهور القيم المضافة وبالتالي اﻹنكماش اﻹقتصادي والكساد، فتجد الحكومة نفسها مجددا في ذات المأزق فتنصاع تمام اﻹنصياع ﻹملائات البنك الدولي من خفض الدعم على السلع اﻷساسية أو رفعه نهائيا وفرض المزيد من الضرائب كشرط من شروط اﻹقراض لسد عجز الموازنة، وهكذا دواليك فيزيد الفقراء فقرا ويزداد الفقر شراسة ويزداد اﻹحتقان الشعبي، فتلجأ تلك الحكومات إلى سن تلك القوانين التي تحد من الحريات وتكمم اﻷفواه وتحمي الفساد والفاسدين، فيبدأ القِدر بالغليان الصامت حتى ينفجر في النهاية بوجه الطهاة الفاشلين، وهناك أمثلة حية.

وهذا ما يفسر أن حكوماتنا تبقى ضمن دوامة عجز الموازنات العامة، وارتفاع نصيب الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي الذي يصل أحيانا إلى نسبة 95-90% منه، كما هو الحال في اﻷردن مثلا، حيث بلغت تلك النسبة في 2016 إلى 93% ومرشحة خلال 2017 لﻹرتفاع إلى نقطتين أو ثلاثة، فعدم وجود تلك الخطط اﻹقتصادية الجدية التي تركز بشكل أساسي على الصناعة والزراعة ورفع نسبها من الناتج المحلي اﻹجمالي كقطاعات أساسية في دعم إقتصادات البلدان، يؤدي بتلك الحكومات إلى أن لا يبقى أمامها سوى ما أطلقت عليه “اللعب بالنار” وهو اللجوء إلى جيوب الفقراء، والجدير ذكره أن كل الدول العربية عدا تلك النفطية منها تشكل نسبة الزراعة والصناعة من الناتج المحلي اﻹجمالي  لديها ما يقل عن أل10% بينما تتولد النسبة المتبقية من الديون الخارجية والتي تصل إلى 90% من الناتج المحلي، وهذا ما يفسر أننا كعرب نزداد فقرا وأننا نحن من نقوم بحفر وتوسيع تلك الهوة التي بيننا وبين البلدان المتقدمة الغنية وبأننا نلعب أبدا بالنار التي سياتي ذاك اليوم الذي ستحرقنا فيه بالنهاية.

لكن ألا تستشعر حكوماتنا وأنظمتنا تلك المخاطر؟ هناك إجابتين، اﻷولى: هي أن أنظمتنا العميقة لا تقيم وزنا لا لشعوبها ولا لفقرائها ولا لجياعها أصلا، وهذا ما يفسر أن القرارات السيئة والتي تمس عيشة ولقمة المواطن تنزل نزولا وتؤخذ جُزافاً وهي من أسهل ما تلجأ إليه تلك الحكومات ضاربة عرض الحائط الرفض الشعبي لها وحالة اﻹحتقان، الإجابة الثانية: تكمن في أن أنظمتنا العربية ما يهمها فقط هو أن تستمر في تعزيز  ترسانتها اﻷمنية والعسكرية، فحكوماتنا المتعاقبة لا تعبأ أصلا لا بالصناعة ولا بالزراعة ولا بالسياحة ولا باﻹستثمار ولا بالتجارة كما نستقرىء ذلك من نسب تلك القطاعات المتواضعة والمخجلة في الناتج المحلي اﻹجمالي، فحكوماتنا تعبأ أبداً بالجيش وشراء اﻷسلحة المعدة أصلا لقمع الشعب واﻷمثلة باتت واضحة وضوح الشمس أمامنا، كما وتعبأ برواتب الضباط وزيادة ترفهم والحرص على رضاهم وولائهم للنظام، كما تعبأ أيضا بزيادة أعداد أفراد الشرطة والدرك ورجال الأمن وتعدد الأجهزة اﻷمنية وتنوعها، وهذا ما يفسر أن ما يفوق نسبة أل70% من الموازنة العامة لكثير من الدول العربية يذهب كرواتب لموظفي الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية، فمثلا لم نستمع يوما لتلك الأناشيد والأغاني التي تمجد المهندس أو النجار أو الطبيب أو عامل النظافة أو المعلم! بينما سئمنا تلك الأغاني التي تمجد الشرطي والجندي وبسطاره وقبعته ورائحة عرقه (…) هذا توجه حكومي عام، وسياسة مرسومة طويلة الأمد لم تدع من خيار لتلك الحكومات المتعاقبة الفاشلة التي يؤخذ بمعيار المحسوبيات والمعارف كأهم معايير إختيار رؤسائها ووزرائها؛ سوى اللعب بالنار ولا شىء غير اللعب بالنار.

نشر أيضا على صحيفة العربي الجديد اللندنية في 24/فبراير/2017

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>