طريق الرياح

عاصفة

يومها ترددتُ قليلا عن الذهاب، رغم أن رحلة مماثلة بعيدة وخاصة في تلك الأجواء الماطرة والعاصفة ليلا لطالما استهوتني وجعلت الأدرينالين يتدفق في دمي، كانت الساعة وقتها تقترب من السابعة مساء، ويبدو هذا الوقت أثناء فصل الشتاء وكأنه منتصف الليل!.

كان قراري في الذهاب مفاجىء وجنوني واندفاعي، لم أكن أدرك أن رحلة كهذه ستغير تفكيري إلى اﻷبد، ولم أكن أدرك أيضا أنها ستترك أثراً بالغاً على صفحات عمري، حين تسابقتُ مع الزمن ﻷترك أضواء المدينة خلفي وأقود مركبتي تجاه تلك البلدة الحدودية الذي يفصلني عنها ذاك الطريق الخارجي المعتم المستوي وسط صحراء تبدو لا نهائية، كنت أشعر وقتها بقوة الرياح العاصفة وهي تقاوم مركبتي، شعرتُ أن الريح العاصفة وكأنها تجبر مركبتي على الإنحراف يمينا بينما كنتُ اقاوم ذلك، كان الصوت العالي لالتطام حبات المطر الكبيرة على الزجاج الأمامي للمركبة مرعبا بحق، لم تكن مسَّاحات الزجاج رغم سرعتها الكبيرة تجعل من الرؤية أمامي تتحسن وكأن المطر الغزير والعواصف تهزأ منا.

شعرتُ بنشوة بالغة رغم ذلك وسط الرعب والفراغ والمطر والعواصف وقِطع الليل السرمدية من حولي، لقد عجِزَت مصابيح مركبتي الأمامية عن تبديد قطع الليل هذه وكأن شعاعها كان ينحني فيتحطم تحت المركبة تاركاً أيايَ دون هدى ليعود بعد بره من جديد قبل أن أخرج عن الطريق، خيل إليَّ حينها أنني بمركبتي أسير خلال ظلمات في بحرٍ لُجّيٍ مِن فوقه موجٌ مِن فوقه سحابٌ متلبد عبر أكوان غريبة.

لقد أصبحت حبات المطر هائلة الحجم فجأة، كانت ترتطم بهيكل مركبتي وكأنها خيلا جامحة اعتلت مقدمة المركبة ثم الزجاج فالسقف وقفزت في الخلف مبتعدة عني، لقد اهتزت السيارة بقوة، أثناء ذلك وقبل أن تختفي الضربات بسرعة بالغة سمعت صرخة قوية وسط الهيجان والهدير، ما هذا؟ ليس خيلا وليس مطرا! هل صدمتُ شيئا ما؟! لقد حدث الأمر خلال ثانية أو اثنتين أو ربما أقل بقليل.

يا إلهي لو أنني الآن في غرفتي التقشفية وسط أغطيتي الوثيرة.

أوقفتُ مركبتي جانبا، وصارعتُ الريح محاولا فتح بابها، وفور خروجي تبللتُ كما لم أتبلل من قبل، بنظرة سريعة تفحصت خلف المركبة فلم أجد شيئا غير خفقان الإضائة الرباعية الحمراء وسط هذا الليل السرمدي، مركبة تقترب من بعيد، الحمد لله أنا ما زلت على الأرض! لوهلة لمحت شيئا ممدا على الطريق هناك في الخلف، نعم لقد صدمت شيئا إذا، ظهر لثانية ثم غاب مع غياب ضوء السيارة البعيدة الخافت، إقتربتُ قليلا تجاهه مع الريح والمطر الذي كان يدفعي نحوه، ما هذا غزال أم إنسان أم ماذا؟ يا إلهي! المركبة تقترب هيا ما هذا؟ تحسسته وشعرت بتلك الملابس، إنه شخص، حاولت إمساكه بأي طريقة محاولا إبعاده عن الطريق بسرعة، كان ذلك صعبا وثقيلا ومترهلا.

لقد بدى الإرتباك واضح على المركبة القادمة، يبدو أن سائقها يرى شيئا ما يتحرك على الطريق أمامه فلم يعد قادرا على أخذ قرار التوقف من عدمه، اﻹصطفاف يمينا أم يسارا، مر بي وشاهدني ثم توقف في البعيد وعاد إلى الخلف بمركبته، المفاجأة أنه كان شخصا يرتدي زي الشرطة ولمعت نجمة على كتفه وهو يقترب منا وهو يضع يده على فمه وأنفه تفاديا للبَرْد ثم سارع للكلام “هل صدمت هذا الشخص؟ من أي سماء نزلتما؟!”.

لم أكره تصرفاتي المندفعة هذه كما كرهتها تلك اللحظة، ولم أشعر يوما بأن قلبي لم يعد موجودا في صدري، ولم أعاقر تلك الجرعات القاتلة من الرعب قبلا كما هذه اللحظة.

لم أعد أشعر بالزمن أو المطر أو الريح، لم أعد أرى العتمة حتى! بعد أن أصبَحَت الصحراء مأهولة بمركبات الشرطة ومركبة إسعاف وإطفائية فجأة، ركب معي شرطي وتبعنا مركبات الشرطة متجهين إلى أقرب مركز أمني، على الطريق وبينما الأنوار المتحركة لمركبات الشرطة والإسعاف تتراقص امامنا ونحن نسير على الطريق وزخات المطر المتلاطمة، لمحتُ بسرعة كبيرة عائلة -نعم عائلة- رجل وامرأة وبعض الأولاد يقفون على جانب الطريق الصحراوي تحت المطر وفي قلب العاصفة والليل.

أوقفت مركبتي جانبا رغم تعجب الشرطي حين قال “ماذا تفعل؟ هيا تابع وراء المركبات، لا يحق لك التوقف أبدا” لقد صرختُ بوجهه بعد أن أنزلتُ نافذة المركبة مع صوت الريح والمطر “ألم تشاهد تلك العائلة هناك يا رجل؟!” يصرخ الشرطي مجددا “عائلة من يا رجل؟! حرك المركبة وإلا أوقعتَ نفسك في متاعب أنت في غنىً عنها، هيااا”.

نزلت من المركبة متجاهلا صراخه، ﻷذهب ركضا نحو العائلة، كانت إمرأة تضم إليها طفلين في الرابعة أو الخامسة من عمرهما يقفان أمامها ويحتضنان خصرها ويغرسان وجهيهما أسفل بطنها ويصرخان، كانت تحاول يائسة من تهدئة روعهما، وإلى جانبها شابا يبدو في سن المراهقة، بدأ يكلمني بصوت عالي وبلهجة سورية ويتوسل إليّ أن نأخذهم من هذا المكان، والأم ترد عليه وعلى صراخ الطفلين “لا نستطيع الذهاب قبل عودة والدكم، لا نعلم أين هو ولا نعلم مالذي يؤخره” كانت تبكي مرتعبة، أخبرتها وكان الكلام صعبا وسط العاصفة “زوجك معنا سيدتي، فقط توجهي والأولاد نحو المركبة، هيا بسرعة”.

جن جنون الضابط بعد أن عاد أدراجه بمركبته نحونا، وبدأ يصرخ “لماذا توقفتما ومن سمح لكما بذلك؟” ثم وجه الكلام إليّ “أنت مرتكب عمليه دهس ألا تدرك ذلك؟” لقد انهارت المرأة فور سماعها تلك الكلمات وبدأت بالصراخ واللطم على وجهها وهي تقول “يا وَيْلي لقد توسلتُ إليه أن لا نترك الشام، يا وَيْلي لماذا طاوعته ولم أبقى إلى جانب والدتي وأهلي لماذا؟ ضِعنا يا أحبائي ضِعنا خلص وضاع أبوكم وضاعت حياتنا” حاول إبنها الأكبر جاهدا منعها من ضرب وجهها والصراخ، لكنه توجه ليحتضن الطفلين في النهاية، وسط كتلة من الصراخ الهستيري،
الشرطي والضابط والمرأة والأطفال والمطر والرياح والعاصفة والسماء المتجهمة وقلبي وعقلي ووجداني، كل شىء يصرخ من حولي وفي داخلي.

أكملنا المسير في النهاية على الطريق الصحراوي المزمجر مطرا ورياحا كقافلة وحيدة من مركبات حزينة وغاضبة، يتصدرها مركبة إسعاف مثقلة بعائلة كاملة هائمة ضائعة، بعد أن كان لها بلدا وحيا وجيرانا وأحبابا وأصدقاء، حياة كاملة بأدق تفاصيلها تناثرت للتو مع هيجان تلك العاصفة في عتمة ليل على طريق الريح.

في صباح اليوم التالي، وبعد ليلة شديدة البرودة قضيتها داخل غرفة الحجز الفارغة من الرفقة، علمت أن هذه العائلة كانت قد وصلت لتوها من الحدود السورية، وقطعوا كيلومترات عديدة سيرا على الأقدام قبل أن يطلب منهم الأب التوقف ليسبقهم بخطى سريعة عله يجد مركبة أو شخصا ما ويطلب منه المساعدة، حين وقف وقتها وسط الطريق أمام مركبتي كي يرغمني على التوقف فيما لو شعرت بالريبة منه، لكني لم أشاهد شخصا أو أي شىء وكان يقف أمامي وسط تلك الطريق! كانت تلك العاصفة التي لطالما خضتُ غمار أمثالها ليلا تعمل ضدي وضدهم والقدر هذه المرة.

الحمد لله أن رب الأسرة بخير ليستفيق في النهاية ويحكي ما حدث له، الحمد لله.

نشر على هفنغتون بوست عربي

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>