تَرَكَت روحَها هناك وعادَت

وسط الفوضى العارمة التي عمت المكان فجأة، بقيت تنتظره، هي وحدها، والناس يصرخون من خلف سور منزلها “يلّا يا إم نوار، يلاااااا، الحي كله راح ينهدم”.

كانت تنظر دون اكتراث وهي تبكي بصمت صوب باب منزلها الحديدي وهو يهتز بقوة، ثمة من كان يحاول خلعه، لقد تركت صراخهم واهتزاز الباب وذهبت إلى غرفته وجلست على سريره تتحسس وسادته الباردة.

وبينما هي كذلك فجأة أصبح المشهد خارج منزلها أكثر جنوناً، أصوات مئات الأقدام لأناس يتدافعون ويركضون، امتزجت بأصوات صراخهم، وتكبيرهم، وهناك أول الحي، كان صوت الجرافات وهي تأتي على التهام البيوت المتهالكة بيتاً بيتاً، تلا كل ذلك صوت انفجار هائل جعلها تضع يديها على أذنيها بحركة لا إرادية، ثم عادت إلى بكائها الصامت من جديد.

كان ذلك في الشهور الأولي للثورة السورية، حين اتخذت الحكومة قرار هدم حي سكني عشوائي، هذا القرار الذي أشعل أولى شرارات الثورة! لقد كان الهدم كعملية عقاب لعائلات أولئك الذين خرجوا في المظاهرات الأولى ورسالة ردع لباقي الشعب.

أم نوار التي تجلس الآن وحيدة في غرفة إبنها كانت قد فقدت قبل يوم من هذه الأحداث زوجها برصاصة في رأسه، وجد مقتولا داخل سيارة التاكسي التي يعمل عليها منذ عشرين عام، لم يعلم أحد مَن قتله ولماذا، هل هي الحكومة أم الثوار؟ لا أحد يعلم، وقبل مقتل زوجها بأسبوع فقدت إبنها غزوان المجند بجيش النظام في كمين نصبه لهم الثوار.

جلست أم نوار هناك في منزلها تنتظر عودة نوار الذي وعدها بالعودة قبل أن يخرج مع الثوار، قلبها يقول لها أنه سيصل قبل أن تصل الجرافة إلى منزلهم وتلتهمه كغيره، لقد تَقَطّع قلبها بين الجيش الذي ضمَّ إبنها بالتجنيد الإجباري، وبين الثوار الذين سلبوا عقل نوار حين كانوا يهتفون من أجل الحرية، لكنها غابت في النهاية وتلاشت وسط ضجيجٍ هائل ومرعب، وسط الغبار الذي بات يزداد كثافةً وقتامةً فوق رأسها شيئا فشيئا.

لقد مرَّت أيام وأيام الآن منذ أن هُدِّم الحي، لا يوجد سوى أكوام من الركام والدمار في كل مكان، لم يبقى في الحي أحد من الجيران لقد ذهبوا وبقيت ذكرياتهم، تساءلت أم نوار، لماذا لم تُعرج الجرافة على منزلنا؟ هل هي إشارة من الله بأن نوار سيفي بوعده لي؟ ثم تصرخ وتقول، يااااااا ربي، يااااااا دلِّيييي، ياااااا حبيبي، تعال يا إمي، ولك يلا تعااااال أنا ما رحت ولا راح روح من هون لحتي تجي يا إمي، لقد ذهب صوتها بعيداً عبر الحي وارتد بعضاً منه حين اصطدم بأجزاء المنازل المتهالكة التي بقيت قائمة بعد الهدم.

أصبحت دموعها تحرق خديها، وأنفاسها وهي تخرج من أنفها بدت ساخنةً جداً، لقد ارتجف قلبها في صدرها فهي تعرف هذه الإشارات المخيفة وتعهدها جيداً، فقد حدث معها ذلك قبل خبر مقتل زوجها بينما كانت تبكي إبنها الجندي، فجأة أحدٌ ما يقرع باب منزلها الحديدي المتهالك بقوة، ياااااه منذ مئة عام لم يقرع بابي، ويا ليته لم يُقرع.

تفتح الباب ويدها ترتجف، لتجد رجل بزي عسكري ليبدأ بسؤالها فوراً ودون سابق إنذار:

أنتِ أم نوار؟
نعم أنا
إبنك قُتل ضمن صفوف المخربين والخون، هو الآن في ثلاجة المستشفى، نريدكِ أن تأتين معنا لتتعرفي على جثته.
أم نوار تبكي بحرقة أشد وبدموع تغلي هذه المرة وتقول “إبني مو خاين ولا مجرم”.
العسكري: لم يعد من فائدة الآن، نحتاجك للتعرف على الجثة، هيا بسرعة أمامنا الكثير لنقوم به غيرك.

هناك تحت الأرض، في أحد المستشفيات داخل قسم ثلاجات الموتى، يفتح أحدهم الثلاجة الأولي أمام أم نوار، كان المنظر بشع للغاية بحيث وقعت أم نوار على الأرض دون أيُغمى عليها، لم تقوى أرجلها على حملها، كانت تحوي الثلاجة جثتان، جثة إبنها نوار وجثة أخرى، دموعها أصبحت وكأنها نهر من كبريت مشتعل، وصدرها بركان ثائر.

يسأل العسكري أم نوار بقسوة: من منهم نوار؟ وقبل أن تجيبه لمحت يد الجثة الأخرى تتحرك بحركة خفيفة! ماذا تفعل هل تشير على نوار الميت، أم تشير على زميله الذي يبدو انه حي؟ ثم يسأل العسكري مجدداً وبصوت أعلى هذه المرة، ما المشكلة هل الأمر صعب، أي جثة تعود لإبنك هيا؟.

ترفع رأسها أم نوار عالياً وهي تعتصر دمع عينيها الذي يغلي، لقد سال الدمع من على خديها ثم رقبتها حتى بلغ صدرها وهي تحدث نفسها دون صوت، آخ يا أم نوار آآآآخ، سامحني يا إمي سامحني، ثم يقاطع العسكري خلوتها مجددا وبصوت أعلى، هيا يا امرأة من هو نوار؟

لم يعد لدى أم نوار الكثير من الوقت كي تختار، ثم أشارت بيدٍ ترتجف إلى الجثة الأخرى التي يبدو أن صاحبها حي كما تعتقد، هذا إبني، قالتها مع آهٍ لا تدري بالضبط من أين خرجت هذه الآه.
سألها العسكري: هل تريدين إستلامها، أم ندفنها نحن بعد تعريفها؟
لا لا، سأستلمها وسندفنها نحن.
يصرخ العسكري: سلموها الجثة يا شباب، ووقعوها عالإستلام والتعهد، وشوفولها سيارة تشيلها هي وهالزبالة من هون.
لم يكن في الحي مِن أحد حتى يسأل أم نوار دفن جثة ابنها وحثها على سرعة إكرامه بهذا الدفن، فكان لها من وقت ووحدة مع هذا الشاب المصاب.

لقد ضمدت جراحه واعتنت بها بقليل من تفل الشاي وبعض المطهرات لأيام طويلة جدا حتى شفي تماما، كما أخبرته بالقصة كاملة، حين استيقظ يوماً فجأة من سباته الطويل وسألها بأن تُعرِّف عن نفسها، وأن تخبره بمكانه، وكيف وصل إلى هنا، وما الذي حدث معه بالضبط؟.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>