مررت من هناك

المكان شاهق جداً وجليدي، ومخيف، حتى أن قلبي كان يرتجف داخل صدري، في كل لحظة كانت تسيطر عليّ فكرة العودة، خاصة وأنني لا أعرف بالضبط ما هي النهاية.

وبينما أشعر بالرعب والبرد الشديدين، وقلبي يرتجف، ومِن حوليَ الضباب، دائم الإلتفات خلفي، حتى أنني لم أستطع رؤية مدى المكان السحيق هناك أسفل مني، بدأت أشعر بضيقٍ في التنفس، وهذا ما زاد من رعبي، يبدو أن الأوكسجين شحيح هنا، يااااااه كم يعلو هذا المكان كم؟.

كنت أغذي السير مسرعاً حين كانت تتساقط الحجارة من تحت أقدامي آخذةً طريقها بسرعةٍ فائقةٍ تجاه الوادي السحيق، صوت الحجارة المتدحرجة، وصوت أنفاسي، كانا الشىء الوحيد الذي آنس وحدتي في هذا المكان الصامت الساكن، واللا نهائي، لكني توقفت فجأة، وأصابتني القشعريرة، ووقف شعر جسدي، وزادت رجفتي النابعة من قلبي، حين تذكرت أن هناك ليلاً قادماً، ليلاً سيبدو عتمةً سرمديةً لا نهائية.

يا إلهي! ماذا أفعل؟

هل أعود أدراجي؟ فأنا أسير منذ نصف يوم تقريباً، ربما أصل الحدود مع الليل.

أم أتابع المسير علّي أصادف شيئاً ما، لكن، ماذا لو بقي هذا المكان الذي أسير فيه قاتل الهدوء ومرعب كما الآن؟

كيف ساقضي ليلتي وسط هذا البرد القارس، وسط هذا الفراغ؟ يا إلهي! أنا أرتجف برداً ورعباً مع أني أسير وفي النهار! فكيف إذا سيكون هذا الليل؟.

لا لا، سأواصل المسير، الله لن يضيعني ومؤكداً أنه يخبىء شىء جميل لي، هذا مؤكد، طبعاً مؤكد فأنا مظلوم والله لا يرد دعوة المظلوم، “يااااا رب..يااااا الله..يااااا رحيم..يااااا رحيم..يااااا رحيم..إحمني يا الله، واحمي من هم في مثل حالي الآن، وخلصنا من الظلم والتعب والمشي والخوف والرعب، يا رب، يا أرحم الراحمين يا الله”.

بدأ مدى الرؤية يتقلص، فالضباب يزداد كثافة، والليل يقترب، أفضل شىء هو أن أجد مكاناً أقضى فيه ليلي هذا، واضح أنه على يميني الجبل، وعلى يساري الوادي السحيق، ربما أن طبيعة هذا المكان أفضل من الأرض المستوية، قد يكون تواجد الحيوانات أقل، أو في أفضل الأحوال قد أسمع أي شىء وهو يقترب مني، يا ربِّ ثبتني يااا رب.

لم يعد هناك أي مجال للرؤية رغم ضوء الشمس الخافت، لقد ازداد الضباب كثافة قُبيل المغيب، الحمد لله أني وجدت صخرة مرتفعة عمن حولها من أرض، سأجلس في ظلها وألتفّ حول نفسي محاولاً توليد بعض الدفء، لكن ماذا لو هاجمني شىء؟ الأفضل هو أن أتسلق الصخرة وأقضي ليلي فوقها، نعم هذا أفضل خيار رغم أن الريح سيلفحني من كل جهة هناك في الأعلى، لكن للآن الجو صامت، لا ريح، ما أرحمك ربي!.

د د د د د د، ما هذا؟! لا أستطيع التوقف عن الإرتجاف، هل هذه نهايتي؟ الموت متجمداً أعلى صخرة على الحدود اليونانية؟ لم أعد أحتمل المزيد من البرد، ربما الإحتماء أسفل الصخرة أفضل بقليل، يا إلهي امنحني الشجاعة والدفء.

بسم الله، بسم الله، بسم الله، أففف أفففف، لا أشعر بأصابع يداي ولا أصابع قدماي وأذناي ربما سقطتا من مكانمها، وهذا الهدوء القاتل يرعبني، أنا أسمع دبيب الحشرات على الأرض، ومن خلف ظهري على الصخرة، يا إلهي ربما لو كان هناك بعض الريح لساعدني على النوم بدل هذه الأصوات.

هااأ هااااأ، رمي بعض الحجارة من حولي قد يبعد أي حيوان يتواجد بالقرب.

سمعت حجراً وكأنه سقط في بركة ماء هناك!.

استيقظت صباحاً، أعتقد أنني غفوت بُعيد الفجر، كانت الشمس مشرقةً إلى ربع السماء تقريباً، ولا أثر للضباب، لكن هناك أمراً غريباً جداً، لا جبل شاهق على يميني ولا وادٍ سحيقٍ على يساري! هل مشيت ليلاً؟ أم حملني الريح؟! لكن ها هي الصخرة التي رأيتها ليلة البارحة ونمت في ظلها!.

يا إلهي هل جننت، كيف سوّلت لي نفسي أني أسير في مكان مماثل؟!

أنا على الحدود التركية اليونانية، أصلا لا وجود للجبال الشاهقة، ولا وجود للوديان السحيقة هنا، بل أرضاً وعرة تسبق النهر الذي يفصل بين البلدين، أذكر أننا بالأمس كنا نسير برفقة الريبر بعد أن قطعنا النهر قبل أن يباغتنا حرس الحدود الألمان، هؤلاء الألمان الأوغاد يدافعون هنا في اليونان عن أوروبا منا نحن اللاجؤون، أذكر أيضاً أنني تمكنت من الهرب بسرعة هستيرية واختفيت وسط الغابة الكثيفة المتشابكة المرعبة داخل الأراضي اليونانية.

لكن..متى وصلت هنا، وكيف اعتقدت أنني أسير على جبل شاهق وعلى حافة ذاك الوادي السحيق؟

لقد كان الأمر حقيقياً، لقد كانت الحجارة التي تسقط تجاه الوادي تهوي دون أن ترتطم.

الحمد لله أن عقلي عاد إليّ، الحمد لله، يا رجل، الحجارة لم تكن تتحرك من تحت أقدامك أصلا، إحمد ربك أن عقلك عاد إليك هذا الصباح، إحمد ربك.

تذكرت شيئاً، ربما أن البركة التي سمعت ليلا أن الحجر وقع فيها، ربما أنها كانت النهر، يبدو أنني لم أبتعد كثيرا عن النهر ولا عن الحدود، كلام منطقي للغاية، فأنا ما زلت داخل الغابة الكثيفة أصلا، يجب أن أعبرها قبل حلول الليل، لكن المسير في النهار خطير وقد يكشفني حرس الحدود في أي لحظة، كما كان يوصينا الريبر دليلنا التركي، المسير ليلا أكثر أمانا، والنهار للنوم والإختباء والراحة، وأنا عكست الآية تماماً، يا لغبائي وحماقتي.

بقيتُ ذاك النهار داخل الغابة الكثيفة المحاذية للنهر على الحدود التركية اليونانية حتى هبط الليل، وتحت جنح الظلام، وعبر كتلة هائلة من الرعب، جعلتُ أشق الغابة بخطوات هزيلة مرتجفة، فجأة توقف قلبي عن الخفقان في صدري، لقد سمعت صوت خشخشة من بعيد، وبدأ الصوت يقترب، وكلما اقترب أكثر بدا وكأنه وقع خطوات لرهط من الرجال، ومع الإقتراب أكثر تأكد ذلك، تسلقت شجرة لحماية نفسي وفي الأعلى جلست بهدوء.

بصعوبة شاهدت رجالاً يُنزلون قارباً مطاطي في النهر، ويضعون على متنه أناس ويعيدونهم إلى الحدود التركية بهدوء بالغ، لم يكن ثمة أصوات أو مصابيح.

عاد المكان إلى هدوئه االقاتل، وعدت أنا إلى خطواتي الهزيلة المتعبة الغير مجدية البتة، خطوات نحو الحلم الأوروبي، ماذا سأفعل في أوروبا، ماذا سأفعل؟ أي والله نومة عالأرض بسوق الحميدية بتسوى كل أروربا، آآآآآآخ وقولة الآخ لا تشفي العليل.

بقيت أمشي طوال ساعات الليل حتى شُقَّ الفجر والصبح تنفس، يا الله شو كنت أحب منظر الصبح من شباك غرفة نومي، يا الله، ورائحة الشاي بالنعناع وهي تصنعه أمي في الصباح، يا حبيبتي يا إمي.

أذكر أني غفوت تحت شجرة دون خوف، كنت وقتها لم أزل داخل الغابة الكثيفة، فجأة استيقظت من غفوتي، والتفت من خلفي لأجد جنوداً ألمان يقتربون مني بكل هدوء، وكأنهم كانوا يعلمون بوجودي طوال الليل وانتظروا الصباح حتى يأتوا إليّ، اقترب مني إثنان منهم وبكل هدوء، ربتوا على ظهري وأمروني بالمسير معهم، لقد قدموا لي الماء وبعض الطعام وعاملوني باحترام كبير ودماثة بالغة، ركبنا سيارة عسكرية واتجهنا صوب اليونان على الحدود، لقد اكتشفت وقتها كم كنت غبياً حيث كنت أسير طوال هذه المدة بعكس المطلوب، وهم يشاهدونني عبر المناظير الليلية.

أخذوني إلى مبنى على الحدود اليونانية، وجدت بداخله الكثير من السوريين والمغاربة، لكني لم أجد أحداً ممن كانوا معي قبل أن يلحق بنا حرس الحدود الألمان، كان مكاناً نظيفاً، كانت تعلو صرخات الشباب وهم ينادون على الجنود  “هيي ماي فريند وي نيد سيجاريتس” وسرعان ما يأتي الرد ” أو كي ماي فريند” ثم تأتي السجائر، “هيي ماي فريند وي نيد فود، وي نيد كوفي، وي نيد، وي نيد…” لا أذكر أن الجنود رفضوا  طلباً واحداً، لقد أحضروا لي الطعام والماء البارد.

أخبرني أحدهم أننا سننتظر حتى هبوط الليل ليعيدونا مجدداً عبر النهر إلى الحدود التركية، فسألته مستغرباً، ولماذا في الليل؟ فأجابني، أنهم يعيدونا إلى تركيا ليلاً بسرية بالغة، فهم لا يرغبوا أن يراهم الأتراك وهم يقومون بإعادتنا، حتى لا تلجأ تركيا إلى الأمم المتحدة وتقدم شكوى بحق اليونان، لأنها تقوم بإعادة اللاجئين إليها، فهذا مخالف حسب الدستور الأوروبي بحق اللاجئين.

أخبرني الشباب أنهم سيعاودن الكرة مراراً، أما أنا فقد سئمت، سأعود إلى سوريا وأموت هناك.

 

 

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>