تونس مرة أخرى

لم أكن أعلم حين كنت أسير بشكل جنوني، أنني سأغذي السير مجدداً، وأغذي السير، وأغذي وأغذي، إذاك   توقفت بمحاذاة رهطٍ تجمهر وكأنه تداعى على قصعة أكل، لا لا، ليس رهطاً، هناك في الجهة التي كانت متوارية عني، نسوة أيضاً.

وقفت متطفلاً يدفعني إلى ذلك فضول المسافر -فضول غريب ِلبْلاد- فضول المسحور بروعة المكان، كان المتجمهرون يتناولون وجبة الفطور في الشارع، كما عادات الكثير من الشعوب، وجبة قوامها الأساسي البيض المسلوق،   عربة البيض كعربة الفول في مصر وعربة الذرة في بلاد الشام، حيث يقوم الزبون بكسر البيضة من الأعلى ويشربها دفعة واحدة، فالبيضة تبدو وكأنها لم تتعرض للسلق أبداً، كان المكان يعبق برائحة البصل المقطع حيث يتناول      بعضهم “ساندويش” بيض مسلوق بالبصل، وجدت أن تناول هذه الوجبة يستمر حتى وقت متأخر من الليل.

إهتزت الأرض من تحتي قليلاً حيث يمر الترام من خلفنا، يا إلهي! ما هذا؟! اهتز قلبي في صدري أيضا، يقفان خلفي و يلف ذراعه على رقبتها الغيداء؛ يا إلهي! إنه يطبع قبلة على خدها المياس وفي الشارع؟! وأمام المارة! نعم،      هي تونس التي تميزت بانفتاحها ودرجة الحرية عن باقي البلاد العربية، إنها لبنان الغرب، فترة حكم الإسلاميين بعد ثورة الياسمين لم تغير شيئاً في الروح التونسية إنه الشعب بروحه الحرة التي تشكلت على مدار عشرات السنين،  أتعلمون أمراً؟ الماخور الوحيد والمرخص بقي يستقبل زبائنه طوال فترة حكم الإسلاميين، والآن يتم التضييق عليه من    قبل نظام الباجي قائد السبسي تمهيداً لإغلاقه نهائيا.

على الرغم من عودتي مرة أخرى إلى منطقة باساج في العاصمة التونسية، إلا أن ذلك لم يكن مصدر إزعاج     لي بل على العكس، كان مصدر سعادة كبيرة غامرة..حيث اشتياقي للرجوع ومسيري في نفس الشوارع وأخذ الشيشة     في نفس المقاهى وشرب قهوة الاسبرسو والشاي بالليمون والشاي باللوز هناك، ياااااه..كم تمنيت أن أعود مرة أخرى إلى ذات المكان، فأنا مَنْ أَرْتَبِط بالمكان الذي أزوره ويعتريني الحنين حد الثمالة للعودة مجدداً قبل  التفكير في زيارة أماكن أخرى جديدة.

وجدت تونس تماما كما كانت قبل عام تقريبا، في المرة الماضية كان وصولي مع فوز الباجي السبسي في الإنتخابات الرئاسية، مثلا نفس الأسعار، نفس المحال التجارية، لم أجد محلا قد أُغلق أو آخر عُرض للبيع، على الأقل في منطقة باساج التي خبرتها، رغم أن مثل هذه الملاحظات بسيطة، إلا أن مثلها من الأهمية بمكان حد استقراء           الواقع الإقتصادي لمجتمع ما، ومدى استقرار المشهد السياسي العام، لم ألاحظ أنني متواجد على أرض تعرضت     لهجمات إرهابية داعشية، حتى أنني لم أتذكر أن أراجع زملائي المدونين التونسيين حول هذه الهجمات، نسيت الأمر    تماما، الأمر الذي أثار عصبيتي وانزعاجي حين رجعت إلى الأردن.

المقهى الشعبي منطقة باساج بتونس أنا والزميل من فلسطين نبيل دويكات

المقهى الشعبي منطقة باساج بتونس أنا والزميل من فلسطين نبيل دويكات

وصلت تونس قادما من القاهرة ظهر يوم الرابع والعشرون من نيسان/أبريل لسنة 2016، التقينا في مطار   قرطاج نحن المدونين من الأردن وفلسطين بالمدونين من مصر وأثيوبيا والسودان، حيث كان بانتظارنا أحد المستقبلين  من فندق طيبة الموجود في شارع بو رقيبة بتونس العاصمة، فورا وضعنا أمتعتنا أنا ونبيل دويكات من فلسطين، ومحمود المفتش من مصر في الفندق وذهبنا الى المدينة القديمة التي ينتشر بها شتى أنواع المتاجر التي تعرض المشغولات التونسية اليديوية من ألبسة       وأحذية وحقائب ونحاسيات وحليّ، لكن كنت أتحرق شوقا أيضا للذهاب للمقهى الذي ارتدته كثيرا في المرة الماضية،      تلك كانت ثاني محطة لي في تلك الليلة.

مبنى فرنسي الطراز في منطقة باساج بتونس

مبنى فرنسي الطراز في منطقة باساج بتونس

شىء جميل بحق حين التقيت مجدداً ببعض الزملاء من الدورة السابقة، أعدنا بعض الذكريات وتحدثنا عن     تونس وكأننا في مواعيد متتالية معها منذ قرنٍ من الزمان، أعدنا تصوير نفس المباني فرنسية الطراز، لم    نتمالك أنفسنا بالتقاط الصور لها مراراً وتكراراً!.

 

مقهى الراشدية

كانت معظم تلك الليلة الإستثنائية، من مطاعم ومقاهي وتسكع في الشوارع، على هوى الكاتبة والمدونة القوية مؤسسة الفكر التنويري في تونس “خولة الفرشيشي”، في معظم الأحيان، كنا نكون في نفس المجموعة أينما ذهبنا، وبحكم أنني من مرتادي المقاهي أينما حللت وأقمت، فقد أشارت علينا خولة الذهاب بعد تناول وجبة عشاء شعبية خفيفة لذيذة من الدجاج المشوي واللوبياء -الفاصولياء البيضاء- وسلطة تونسية قوامها الحار غالباً، أشارت علينا الذهاب إلى مقهى الراشدية لشرب الشيشة، هذا المقهى الذي يعتبر من أقدم المقاهي هناك في منطقته، كانت تجربة رائعة فالمقهى بكل تفاصيله حتى تلك الصغيرة منها، كانت تدل على خصوصية المكان التونسي ضمن المنطقة المغاربية الفريدة، حيث غطى الجدران ذاك السيراميك المنقوش بشكل رائع، وهي خصوصية مغاربية مذهلة في العمارة.

مقهى الراشدية ويظر من اليمين خولة، أنا، فاطمة، حيدر، محمود المفتش من مصر

مقهى الراشدية ويظر من اليمين خولة، أنا، فاطمة، حيدر، محمود المفتش من مصر

كانت سهرة من أروع السهرات التي سهرتها يوما في تونس، رغم انزعاج بعض زملائنا من كون الكنيس اليهودي كان جاراً لنا، غير أنني عدت وحدي في ظهيرة اليوم التالي كي أتناول الشيشة “الزعلول الجراك المخلوطين” وكي أشهد هذا الكنيس عن قرب، وبالفعل فقد دخله وخرج منه بعض النسوة، أعتقد انهن يهوديات تونسيات أبين وعائلاتهن ترك تونس بلدهم الأم.

 

زيارة ولا أروع

في اليوم الثالث للتدريب، كان مقرراً لنا زيارة أول موقع نشر وثائق بنما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،   موقع “إنكيفادة” Inkyfada تجولنا في مرافق الموقع، كان أثاثه بسيطاً راقياً، كان ضمن ذاك المبنى أبيض اللون ناصعاً ميزة المباني التونسية الطراز الأبرز، ينشر هذا الموقع باللغتين العربية والفرنسية، لذلك كان هناك موظفين    عرباً وفرنسيين.

عندما وجهنا سؤالا حول سبب اختيار الصحيفة الألمانية التي تلقت وثائق بنما لموقع إنكيفادة كي يكون من      أحد المواقع والصحف التي شاركت في تحليل وثائق بنما، أجابنا الصحفي التونسي الشاب المميز “وليد الماجري”   بأن موقع إنكيفادة هو من المواقع الإستقصائية القليلة جدا في المنطقة والتي تتبع مبدأ الصحافة المتأنية، أي   الصحافة التي تتأخر بنشر الأخبار حتى لو كانت سبقاً صحفياً، وذلك كي تتأكد من صحة الخبر ودقته، حتى لو كان ذلك    على حساب السبق أو الأرباح، الأمر الذي خلق منه موقعا ذو مصداقية كبيرة جدا بين أقرانه ومتابعيه، حقيقة هذا ما تفتقد له معظم إن لم يكن جل المواقع الألكترونية.

أثناء تواجدي في موقع إنكيفادة وعلى نفس الطاولة حيدر من العراق وجهاد من اليابان

أثناء تواجدي في موقع إنكيفادة وعلى نفس الطاولة حيدر من العراق وجهاد من اليابان

 لقد كانت تجربة تركت فينا كمدونين حباً حقيقياً للصحافة الإستقصائية، وتحري الدقة، والموضوعية،       والشفافية، وبالتالي الجرأة في طرح الخبر ونشره، الأمر الذي جعل من موقع إنكيفادة من أكثر المواقع الألكترونية التي   تتعرض لأكبر هجمات القرصنة التي تعرض لها موقع يوماً، حيث بلغ هذا العدد يوم نشر وثائق بنما ما يقارب أل 9000 هجوم في   أقل من يوم!  حيث تراوحت هذه الهجمات بين محاولة الدخول لبيانات الموقع لتعطيله، وبين محاولة      قرصنة المعلومات لديه وسرقتها، لكن لم ينجح شىء حيث التحصين المتين لحينه على حد تعبير الماجري.

 

سحر لا يضاها

كانت أروع تجربة هي عندما ذهبنا إلى منطقة سيدي بو سعيد، تلك المنطقة السياحية القديمة العريقة، والمطلة على البحر الأبيض المتوسط في منظر فريد من نوعه، تلك المنطقة التي يقطنها السكان في منازل قديمة، حيث زُينت كلها باللون الأبيض الناصع ونوافذها وأبوابها باللون الأزرق النيلي، هذه المباني التي وثقت في اليونسكو ضمن   التراث العالمي.

مبنى في سيدي بو سعيد يظهر العمران واللون الأبيض والأزرق النيلي

مبنى في سيدي بو سعيد يظهر العمران واللون الأبيض والأزرق النيلي

أمضينا وقتا طويلا ونحن نتمشى مبهورين بسيدي بو سعيد، مبهورين بالهدوء والشوارع المرصوفة بالحجارة وبمواقف السيارات التي وزعت بمهنية عالية بين الأحياء السكنية، وبتنوع المتاجر وتوزيعها، فهناك المتاجر التي تبيع التحف والتذكاريات، ومتاجر الحلويات التونسية، ومتاجر الألبسة الفخمة والألبسة التقليدية، والمطاعم الفخمة والمطاعم الشعبية، والمقاهي التي تناثرت على الطرقات، وأطلت علينا من الشرفات.

شوارع سيدي بو سعيد المميزة

شوارع سيدي بو سعيد المميزة

لم أرغب بمغادرة سيدي بو سعيد، لم أترك حياً إلا ودخلته والتقط فيه الصور، حتى أبواب المنازل ومداخلها الغريبة ذات الخصوصية ألبو سعيدية المميزة، كانت تجربة ساحرة بصحبة زملائي من المدونين العرب، تعالت ضحكاتنا، وتعالت أصواتنا ونحن ننادي بعضنا بعضاً كي نشهد منظراً يحبس الأنفاس لروعته وجماله وسكونه وحميميته الغريبة الرائعة، كان زملائنا التونسيون من الروعة بمكان حداً خيالياً، علاوة على المشاوير التي لم تنتهي، كانت السهرات في المقاهي حتى أوقات متأخرة من الليل، حتى على نواصي الطرقات، رغم ذلك فانا أتكلم عن كاتبات مدونات مثقفات عزيزات النفس واثقاتٍ، إنهن تونسيات..إنها تونس!.

وصلنا الى إطلالة سيدي بو سعيد على البحر الأبيض المتوسط، ظهرت هذه الإطلالة بشكل مفاجىء أمامنا، وكأن بو سعيد يخبرنا بأن الجمال والإنبهار لن ينتهي بل هناك المزيد لمن كان يملك مزيدا من النشوة ومن خفقان القلب ومن التعجب لروعة المكان، هنا المزيد ها هنا بالضبط، دوزن نظراتك تماما الآن، كان المكان ينتهي بشارع مرصوف يأخذناك هناك إلى أسفل بمحاذاة الأبيض المتوسط من أعلى، خلال طريق مرصوف منحدر على جانبه تلك المنازل البيضاء وعلى الجانب الآخر سفح الجبل الذي ينتهي بالأبيض المتوسط.

 

إطلالة سيدي بو سعيد على البحر الأبيض المتوسط

إطلالة سيدي بو سعيد على البحر الأبيض المتوسط

 

كانت الساعة تقارب العاشرة ليلا حين قررنا النزول مشيا على الأقدام تجاه “قرطاج الرئاسة”، رغم شعوري بالتشويق لرؤية مكان مماثل، إلا أنني وفي نفس الوقت لم أرغب بإنهاء تلك الجلسة الهادئة الجامحة المشاعر مع الزملاء المدونين هناك في مقهى عريق على ناصية أحد شوارع سيدي بو سعيد الساحرة.

شوارع سيدي بو سعيد المميزة

شوارع سيدي بو سعيد المميزة

 مشينا على أقدامنا تجاه قرطاج الرئاسة، كان دليلنا في هذه الرحلة، الأستاذة الجامعية والمدونة جرئية النصوص التي لا يضيرها البتة فتح تلك البلاتوهات المحرمة والخوض في عبابها الهاجة المائجة المتجهمة، إنها فاطمة بلغيث، كان معنا في هذه الرحلة الصحفي والمدون من العراق حيدر إنذار، بدأنا المسير في منطقة قرطاج الرئاسة التي كان يسكن فيها الرئيس المخلوع “زين العابدين بن علي” وأقربائة وباقي علية القوم، قرطاج الرئاسة كما رأيتها تشبه الغابة يتوسطها طريق رئيسي معبد بعناية بالغة، ترامى على جنباته تلك القصور ووالفلل الفخمة المترفة، وظهر هناك من بعيد بين أحشاء الغابة قصوراً زادت المكان لمسةً خُرافية.

لم أكن أمتلك تلك الكاميرا العالية الجودة، وهاتفي النقال عادة ما لا يسعفني في مواقف مماثلة ليلاً، لكن تلك المشاهد التي طبعت في ذاكرتي لن تمحى أبدا ما حييت، مشينا حتى تورمت أقدامنا وشعرنا بحاجة ماسة للجلوس وخلع أحذيتنا، لم يكن صراحة أفضل من محطة الترام التي كانت في أول منطقة قرطاج الرئاسة، كانت هادئة تماماً ومضائة، جلسنا هناك ننتظر آخر ترام متوجه إلى منطقة برشلونة في تونس العاصمة في كنا ثلاثتنا فقط في ساعة صفا لا تعوض، إذ بدأ الحديث يزداد رقةً على رقة، أعلاه حلو وأسفله يذوب في الفم، يعتريه شجوناً ذو حرقة..فغداً صباحاً يكون الوداع.

مدخل منزل بسيدي بو سعيد مميز

مدخل منزل بسيدي بو سعيد مميز

غادرت تونس، وتركت أجزاءً كثيرة مني هناك، كان أصغرها قلبي..وأكبرها؛ تأثرت بك يا تونس وربما تشكلين ما هو آتٍ من حياتي حتى مماتي يا تونس، كيف لا وأنا لن أنسى تلك الوجوه الأنثوية التونسية التي شعَّ من عيونها التحدي والصبر على الحياة والكفاح، نعم إنهن النساء التونسيات يعتريهن الأمل، وإنهم الرجال التونسيين بكل ماعتراهم من لا مبالاة حد الخدر والثمالة. 

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>