بعد الغروب

أحالَ الإرهاق صوت الحافلة التي كنت أستقلها، وأصوات الركاب من حولي إلى إرهاقٍ آخر، وما إن أطل حينا من بعيد حتى تلهفتُ للنزول.
كم أُحب المسير في حينا، حينا الجميل، حينا كثيف الأشجار التي يتخللها المباني والفِلل الصغيرة من بعيد وهي ينبعث من نوافذها تلك الإضائة الخافتة من خلف الستائر، البرتقالية تارة، والزرقاء الفاتحة تارة أخرى، وأبدأ بالتساؤل، مالذي يدور خلف هذه الستائر الآن؟
هل هم أطفال يعتلون ظهر أبيهم ويلهون معه بمحبة؟
أم زوجة تخبر زوجها بأن مرتب هذا الشهر لن يكفي حتى آخره مهما يكن من تقشف؟
كل يوم أكرر نفس الأسئلة، وأنظر إلى نفس الفِلل، وأدوس على نفس الرصيف حتى أني أتفقد يوميا نبتة غريبة نبتت بين مفاصل حجارته، وكلي ثقة وفرح بتواجدي داخل حيِّنا الجميل بعد يوم من الدراسة الجامعية المرهقة.
في يومٍ كنت عائدة إلى المنزل من الجامعة كما الأيام كلها، لم أشعر بخوفٍ يوماً وأنا بعمّان وأنا بحينا، حيث نتمتع نحن الفتيات والنسوة عامة بقدرٍ من الحرية والإنفتاح، ربما يفوق ذاك الذي يتمتعن به غيرنا من النسوة في مجتمعاتٍ عربيةٍ أخرى.
لكن، حدث معي أمراً ربما كسر شيئاً داخلي هذه المرة تجاه درجة الحرية والأمان التي نشعر بها.
لقد هاجمني شاباً بشكلٍ مفاجىءٍ ووحشي من الخلف، خاطفاً حقيبة يدي، رغم أنه كان شاباً عادياً عندما لمحته يقترب من بعيد، كان يسير على الجهة المعاكسة لي، حتى أنه كان يسير على الجانب الآخر ودون أن يوجه لي نظرة واحدة، أذكر أنني سمعتُ فجأة تلك الأصوات من خلفي والتي تصدر عن الحركة الفورية السريعة الخاطفة، حيث ارتفع عدد دقات قلبي بشكل جنوني، وزادت أنفاسي حرارة وسرعة، واقشعرّ بدني من الخوف، كان ذاك الشاب يهم بالهجوم عليّ، أعتقد أن ما دفعه لتك الفعلة المشينة المرعبة، هدوء الحي ووقت الغروب.
رغم ذلك استجمعت بعضاً من قوة وبدأت بالجري خلفه حين فرَّ مُسرعاً بالحقيبة، وشرعت بالصراخ بأعلى صوتي:
حرامي..حرامي..حرامي
حتى خرج الجيران من منازلهم، الأمر الذي زاد ثقتي بنفسي، وأزال كثيراً من خوفي ورعبي وخفقان قلبي.
يا إلهي؛ كم كنت سعيدةً وقتها! حين أمسك الجيران بالسارق خلال ثوانٍ معدودة، وأبلغوا الشرطة التي حضرت بدورها مسرعة الى المكان.
لكن، أتعلمون أمراً؟ فبالرغم من وقوف الجيران إلى جانبي في تلك المحنة، والقبض على السارق وحضور الشرطة، إلا أنني بتُّ بحاجةٍ دائمةٍ للشعور بالأمان، وخاصة أثناء مسيري وحدي بعد الغروب في حينا الذي لطالما شعرتُ فيه بالأمان والإطمئنان والسعادة.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>