الحب كله

جلَسَت على حافة نافورة كانت تحوي تمثالا رائعا لرجل قوي ملفوف العضلات عاريا تماما، وخلفه إمرأة نصف عارية تضع رأسها على كتفه بحنان بالغ، وتلف ذراعها حول خصره.

بدأت تمشي ببطء حول التمثال وتتأمله، وأحيانا كانت تطلق تنهيدة عميقة، وأحيانا أخرى كانت تبتسم، بينما زوجها كان هناك من بعيد يراقب ما تفعل دون أن تراه، إقترب منها بعد أن جلست من جديد على الحافة، وفجأة، وكأنه كان يتأمل معها، قالت له دون أن تنظر إليه حتى:
انظر كيف تضع رأسها على كتفه وكأنه عالمها اﻵمن الدافىء، هو يحميها، يغمرها بحنانه ورجولته.
أتعلم شيئا؟
حب وحماية هذا الرجل لزوجته خَلَّده إلى الأبد.

كان متفاجئا حين رد عليها قائلا:
خَلَّده؟!
كيف خُلِّد ولماذا؟

تنظر إليه هذه المرة ولكن بتعجب ثم تقول:
نعم خلده التاريخ، ألم ترى التمثال الذي شُيِّد تخليداً له؟!
انظر إلى السياح وهم يلتقطون الصور وهو يظهر من خلفهم، كل أولئك الذين يأتون سياحة إلى إيطاليا لا بد لهم من زيارة هذا الميدان لالتقاط الصور التذكارية عند هذا التمثال بالذات، ثم تأتي لتقول لي، كيف خُلِّد ولماذا؟ أنت تفهم ما أقول أم لا تفهم؟ بدأ صوتها يعلو وهي تتابع: أنت كاتب في أمور الفن كما أعلم، أتعلم شيئا؟ لا أريد قراءة كتابك اﻷخير ولن أنظر إليه بالمرة، لأنه كذب في كذب.

ينظر زوجها من حوله، ثم يُدني برأسه نحوها ويقول:
أرجوكِ أن تؤجلي هذا النقاش حتى نعود إلى الفندق، الناس بدأوا ينظرون إلينا، حتى لو لم يفهموا ما تقولين، لكن صوتك مرتفع، ثم إن هذا تمثالاً عادياً يُظهر مفاتن المرأة وجسد الرجل بوضوح، وهذا المقصود منه، وأنا أعلم منك بذلك، وليس كما تعتقدين بأنه خَلّد هذا الرجل العاشق الحاني على حبيبته.

تبدأ بالبكاء وهي تقول:
أنت لا تريد أن تفهم، وأنا متأكدة أنك تستطيع أن تفهم لكنك لم تعد تحبني، لا لا، أصلاً أنت لم تحببني يوماً.
انظر إليها كيف تضع رأسها على كتفه وكأنه كل شىء بالنسبة لها، إنظر، ألا تشعر بذلك، كيف لا تشعر؟!
هذا ما تريده المرأة من الرجل، أن يكون بالنسبة لها كل شىء، أين مشاعرك يا متذوق الفن؟ تقول ذلك بينما تمسح دموعها وأنفها.

يبدأ بالمسير وكأنه يريد أن تلحق به كي يبعدها عن الميدان والناس، وهي تسير خلفه بسرعة وتمسح دموعها وتقول:
لا تريد أن تفهم صحيح؟ ولا تحب أن تفهم، أنا أعلم ذلك، لكن والله أن هذا ليس تمثالاً فنياً عادياً، هذا تخليداً لهذا الرجل المحب الحامي لزوجته.

مَسَكته من يده وبدأت تحاول جرّه نحو النافورة من جديد، تعال، تعال معي لنسأل الناس هناك، ما الذي يعنيه لهم هذا التمثال؟ تعال، أنا متأكدة أن فكرتهم عنه كفكرتي، والكل يفهم تلك الفكرة.

وعندما وجدته لا يريد أن يتجاوب معها بالرجوع، عادت وحدها نحو النافورة وبدأت تتأمل التمثال من جديد، وبينما هي كذلك، شاهدت رجلاً عربيا كبيراً في السن وزوجته، وقفا صدفة بالقرب من التمثال وكأن الزوج يبحث عن مكان مناسب لتحسين إرسال الهاتف النقال الذي كان بادياً أنه يتحدث مع أحدٍ خلاله، وقبل أن يُنهي المكالمة، اقتربت منهما وقالت:
هل لي بسؤالكما؟
قال الرجل: نعم تفضلي سيدتي
شكرا لك سيدي، لكن هلّا شرحتما لي ماذا يعني لكما هذا التمثال، أو مالذي يمثله بالنسبة لكما؟
همَّ الرجل بالحديث، لكن زوجته بدأت بالكلام فوراً وهي تقول:
انظري كيف تضغ المرأة رأسها على كتفه، فهو ملاذها اﻵمن، وربما أن هذا مغزى التمثال.

ما إن وقعت تلك الكلمات على مسامعها حتى طارت من الفرح، وقالت لهما، أرجوكما أن تشرحا ذلك لزوجي، إنه يقف هناك  وأنا أحاول أن أوصل له نفس فكرتكِ، لكنه غير مقتنغ، فهو يعتبره تمثالاً فنياً عدياً فحسب!.

رحبت زوجة الرجل بالطلب على الفور، ووافقها زوجها المسن على ذلك، وذهبوا مباشرة نحو زوجها.

إنه زوجي، الكاتب والناقد الفني محسن توفيق وله الكثير من الكتب عن الفن
وأنا زوجته، فائقة
أشارت إلى الرجل كي تعرف به، فمد الرجل يده ليصافح زوجها وهو يقول:

مرحبا، أنا نادر قدِمنا سياحة من أمريكا، وهذه زوجتي صوفي، يا إلهي كم تحب إيطاليا، تجبرني على الحضور كل سنة تقريبا.

فسارَعَت فائقة إلى توجيه الحديث لصوفي، أرجوكِ، أن تشرحي لزوجي عن مفهومك لهذا التمثال الرائع.

ردت صوفي قائلة:

نعم نعم بكل تأكيد، وشرعت فوراً، أنتم تعلمون أن إيطاليا تضم عشرون بالمئة من التراث الفني العالمي، وهي مقصد لمحبي السياحة حول العالم، وهي تحوي الكثير من الميادين كهذا الميدان، صراحة كلما حضرنا إلى إيطاليا نأتي إلى هذا الميدان، وهذه النافورة بالتحديد، نحن نحبهما كثيرا.
قاطعها زوجها المسن قائلا:

هي تريدك أن تخبريه بأن التمثال يعبر عن شعور المرأة باﻷمان في ظل زوجها أو محبوبها وكيف أنها تضع رأسها على كتفه كتعبير عن ذلك وهكذا…

تسرق فائقة الكلام من نادر وتقول: نعم نعم أرجوكِ، أعيدي تلك الفكرة على مسمع زوجي فهو لم يقتنع مني.

في تلك اﻷثناء، وضع نادر يده على كتف الكاتب محسن وقال له:

لنتركهن وتحليلاتهن، تعال بُني أريد أن أخبرك أمراً مهماً جداً، وبدءا بالمسير..سيد محسن أنا لم أتعرف عليك إلا منذ لحظات، لكن يبدو أن هناك مشكلة ما بينكما، وهناك أمور تعاني منها زوجتك، أنا لا أريد أن أعرف ما هي ولا أسعى لذلك الآن، لكن، أتعلم شيئا؟ عندما نترككم بعد قليل ونذهب في حال سبيلنا، إمسكها من يدها وتمشَّى أنت وهي هناك، عبر ذاك الطريق الهادىء، أو ضع يدك على كتفها هكذا، ثم وضع يده على كتف محسن، ولا تتحدثا بشىء وأنا أأكد لك بأن المشكلة التي تعاني منها زوجتك ستُحل فوراً وسيكون يوما جديدا كليا بالنسبة لكما، وسيكون سعيدا ورائعا، جرب ذلك، وسترى تلك الحركة البسيطة مالذي ستحدثه من تغيير كبير على حياتكما، أنا أنصحك بذلك.

يرد محسن مع تنهيدة:

شكرا، شكرا جزيلا لك سيد نادر، أنت نادر بالفعل وسررت جدا بهذه الصدفة الرائعة التي جمعتني بك اليوم، يا إلهي! كم أشعر بالجوع.

يرد عليه نادر ويقول:

بُني، هي أمور بسيطة جدا، لكنها تحمل في طياتها عوالم من راحة البال، نعم هناك مطعم في هذه الدخلة، هو قديم لكن طبخه لذيذ للغاية أنا جربته أكثر من مرة، أنصحكما بتناول غدائكما هناك.

محسن..نعم شكرا لك

تركه نادر وحده وعاد نحو زوجته.

نظر محسن لزوجته وابتسم وقال لها، سنذهب لنأكل طعاما لم تتذوقي مثيلا له من قبل، ووضع يده على كتفها.

لقد تفاجأت كثيرا حين وضع يده على كتفها، لم تعهدها من قبل، وغمرتها سعادة كبيرة جدا، وقفت ونظرت إلى الخلف حيث الزوجين من أمريكا، وإذا بهما ينظران إليهما، فالتفتت نحوهما بالكامل ومع دموع في عينيها أشارت لهما بالوداع، ثم التفّت نحو زوجها ووضعت يدها حول خاصرته ورأسها تحت إبطه، ضم رأسها نحو صدره وطبع قبلة عليه وهو يقول لها:

أنت حبيبتي ورفيقة دربي.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>