إحنا بتوع الأتوبيس

مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم أكن أبلغ بعد من السنين عشراً، حين بدأتُ أسمع لأول مرة عن الفيلم العربي المصري “إحنا بتوع الأتوبيس” من بطولة عادل إمام والراحل عبد المنعم مدبولي، إذ تدور أحداث هذا الفيلم حول التعذيب الوحشي الذي كان يحدث إبان الفترة الناصرية في السجون المصرية، هذه الأحداث مأخوذة عن القصة الحقيقية التي تضمنها كتاب “حوار خلف الأسوار” للكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي، كان هذا الفيلم من إنتاج سنة 1979.

ومطلع التسعينيات من نفس القرن، لم أكن أبلغ العشرون عاما بعد، حين بدأتُ أسمع في مرحلة جديدة من حياتي عن الفيلم العربي المصري “البرىء” من بطولة محمود عبد العزيز، وممدوح عبد العليم، والراحل أحمد زكي، لقد لخص بعض النقاد والكتاب فكرة هذا الفيلم وقتها بعبارة “قمع الحرية بجهل الأبرياء”  وتصور أحداث هذا الفيلم بعضا من الفساد السياسي في مصر خلال الفترة التي تلت سياسة الإنفتاح، وخاصة بعد ما سمي ب إنتفاضة 17 و 18 يناير من سنة 1977، وهذا الفيلم من إنتاج سنة 1986.

كنت وقتها أعتقد أن كثيرا من أحداث هذين الفيلمين من نسج خيال المؤلف أو المخرج، أو هي عبارة عن طرق وأساليب درامية سينيمائية، بحيث يتم تضخيم الأحداث بشكل ملفت كي يستشعر المشاهد بعضا من الواقع المرير الذي قد يكون مخفيا خلف ظلمات السجون والمعتقلات.

* * *

في الماضي

أنا الآن في الأربعين من عمري، لكني لم أكن أتصور مثلا، بأن أكون شاهداً في جيلي هذا، على أحداث مشابهة إلى حدٍ بعيد، تمر بها مصر حاليا -مطلع القرن العشرون- روى آبائنا أيضا لنا أمثالها، حقيقة فإن تلك الأفلام وتلك الروايات التي رواها لنا الآباء ذيَّاك الزمن -الجميل- كنا نعتبرها مضخمة جداً! تمحورت تلك الروايات والأفلام بشكل متوازي حول صور من التنكيل والتعذيب والظلم الذي كان يُنفذ بأيدي جهلة موجهون، وضع تحت تصرفهم المطلق أولئك الأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعات والطلبة المتفوقون، حتى أولئك المعدمون اللاهثون وراء لقمة عيشهم! لقد نقلت لنا تلك الروايات والأفلام قصصا لمعتقلين قضو أشهر وسنون طويلة في السجون والمعتقلات، بل ومات كثيرا منهم تحت التعذيب الوحشي قبل أن يعلموا ما كانت تهمهم أصلاً، ولماذا هم يذوقون يوميا صنوفا من العذاب! حيث كان من المعلوم لأولئك المتحكمون الجهلة -الأبرياء- بأن أحدا لن يبكي على أي شخص من هؤلاء المعتقلون مهما كانت درجتهم العلمية أو مهما كان نسبهم العائلي، لكنهم ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمون مثلا، أو جماعة ما من تلك الجماعات التي شيطنها النظام، ليس لأمثال هؤلاء أي قيمة حين يقضون تحت التعذيب، أو يتركون ليموتوا جوعاً وعطشا، أو يموتون متأثرين بجراح خطيرة غائرة أحدثها لهم ذاك الجاهل، حيث كانت وبكل بساطة تُلف جثثهم في بطانيات ويتم رميها في الصحراء، أو أن يجدهم ذووهم بعد زمن من البحث ووجع القلب عبارة عن جثث هامدة ملقاة على نواصي الطرق، وغالبا ما يخرج تقرير الطبيب الشرعي بحكاية صادمة للأهل، إذ يكون المتوفى قد قضى بجرعة مفرطة من (المورفين)! أستاذ الجامعة، أو الطبيب، أو خطيب المسجد، أو ذاك الطالب النجيب المتحدث المتوقد الذكاء، قضى بجرعة مفرطة من المورفين، وليس على الأهل سوى إبتلاع المأساة بصمت وحرقة…ماذا تقول يا أبي؟!.

* * *

التاريح يعيد نفسه

 في تلك الأزمنة وكما أخبرتنا تلك الأفلام، وروايات وقصص الآباء، وقتها…كان معظم الإعلاميون وكثيرا من الصحفيون، وكثيرا جدا من الفنانون، والسواد الأعظم من المواطنون، كانوا جميعا بحاجة لأن يختفي لهم إبنا أو أخا أو قريبا ما، في غياهب أقبية المخابرات وأمن الدولة أو المعتقلات الصحراوية، كي يعوا ويصدقوا أن مثل هذه الجرائم المروعة تحدث بل هي موجودة بالبفعل…تماما كما نحن بحاجة ماسة الآن لأن تحدث مثل هذه المعجزات الصغيرة…أو أن يأخذ جهلة وأبرياء هذا الزمن صفعة على (قفاهم) من ضابط شرطة أو أمن دولة، أو لكمة على الوجه من وكيل نيابة، أو مراسل في نيابة إسكندرية مثلا…كي يبدأوا رحلة صغيرة في غرفة الرعب المظلمة ومن ثم يبدأوا بالصراخ والترحم على أولئك الذين أساؤوا الظن بهم وبوطنيتهم وشرفهم وطعنوا بحبهم للوطن والمواطن يوماً…ليصدقوا آلاف الروايات التي تحدثت وتتحدث عن أولئك الأبرياء الشرفاء الذين ضاع مستقبلهم -بجرة قلم- والذين فقدوا حياتهم أو -عافيتهم- على أيدي المحققين وضباط الشرطة والنيابة، ليصدقوا أن هناك أساتذة جامعات وأطباء أُجبروا على أكل برازهم كنوع من أنواع التسلية يقوم به أمين شرطة أو صبي مخابرات مريض يشعر بالنقص من كل شىء -طهقان- من عبث هؤلاء الأساتذة والعلماء بالوطن ومقدراته ورأس نظامه! لكن هذا -الطهقان- يعلم تماما أن أمثال هؤلاء الذين أجبرهم على أكل برازهم لا قيمة لهم تذكر، كونهم فقط متهمون بالإرهاب حتى لو لم تثبت تهمة الإرهاب عليهم بعد!…أو شىء أخطر بكثير…هم من منتسبي جماعة الإخوان المسلمون!…أو أي تهمة أخرى يخترعها النظام وأذرعه الإعلامية ويتداولها الشعب الخائب المرعوب!…هؤلاء المعذبون لا قيمة لهم تذكر، لكن، لو دافع عنهم مدافع فلن يكفي نصف عمره حينها، كي يقدم كل أنواع وصنوف الإعتذار والبراهين التي تُثبت أنه ليس إخوانياً، وبأنه علمانيا ولا يحترمهم ولا يقدرهم ويعتبرهم خون هذا الزمان ويكن لهم كل أنواع العداء والإحتقار، بينما ربما يقضي نصف عمره الآخر وهو يقوم بتلك الزيارات اليومية لأقربائة وجيرانه وأصدقائة كي يعيد لهم نفس القصة.

حقيقة لم أعد أُفرِّق هل أنا أكتب عن الماضي أم عن الحاضر؟! ما زلنا نسمع يوميا عن أولئك الأهالي المكلومين جراء إختفاء أبنائهم أو بناتهم، وهم يجوبون مراكز الشرطة والأقسام والسجون والمعتقلات ومراكز التوقيف على طول التراب المصري…لا وجود لأبنائهم أو أثر! كما يذكر هؤلاء المكلومين دائما، فإن مسألة عدم تجاوب المسؤولين حتى بأصغر المعلومات حول مصائر أبنائهم -المفقودين قسراً- يعتبر كقانون رسمي يقوم هؤلاء المسؤولون بتطبيقه بعناية فائقة، بعض الأسر واجهت أجوبة قاطعة بأن اختفاء أبنائهم ليس من مسؤولة الدولة بأي شكل من الأشكال! وهي رسالة مؤداها، أن هؤلاء الذين تعاطفوا يوما مع الإخوان المسلمون ليسوا مصريون أصلا ولا يحق لهم أن يكونوا مصريين.

الإعلام الموجه تماما، لم يكتفي بعدم التعاطف مع هذه الأسر، بل نجده يقوم بتشويه سير حياة هؤلاء المفقودين قسرا، ويخلق قصص ملفقة تمس شرفهم بشكل مباشر أو بشكل يشكك بسلوكياتهم، سيما الإناث منهم، ما هي تهم ابنائهم بحق؟ متى حوكموا؟ بماذا أو لماذا يعذبوا؟ لماذا يحرص النظام على خطفهم وعدم الإعتراف بذلك؟!.

* * *

قصة إسلام خليل

بعضا من هؤلاء المختفون كانوا أوفر حظا، وكانوا موضع حسد أمثالهم من المخطوفين، فهم علاوة على عدم إجبارهم على تناول برازهم كأساتذة الجامعات والأطباء…إلا أنهم تُركوا موثوقي الأيدي ومعصوبي الأعين أياماً وليالٍ طوال، على أرض مبللة داخل غرفة حبس إنفرادي مظلمة قذرة لا تحوي دورة مياه أو نوافذ أو أي شىء يدل على وجود كائن بشري داخلها…كان ذلك بعد جولاتٍ وجولات من التعذيب والضرب المبرح والصعق بالكهرباء والتجويع والتعطيش…تلك الظروف اللا إنسانية استمرت لأسابيع وأشهر طويلة، حتى إن بعضا من هؤلاء سعيدي الحظ كالمعتقل (إسلام خليل) لم يكن يعلم أنه قضى في ظلمة السجون وتحت التعذيب 122 يوماً، بعد أن اختفى في ظروف غامضة هو ووالده وأخوه لأسباب هو نفسه لا يعملها بعد! حظ إسلام الرائع هذا، عَثَّره بأحد الجهلة -الأبرياء- الذين رقّ قلبهم لفرط التعذيب حتى أخبره رقيق القلب ذاك بأن ينطق بالشهادتين وأن يستسلم لقدره، فقد مرّ قبله هنا العشرات من أمثاله كهلةً وشباباً وحتى أطفالاً! وكان مصيرهم الموت ورمي جثثهم في الصحراء.

يقول إسلام أنه استجمع قواه وأخبر الجاهل صاحب القلب الرقيق، بأن يوصل رسالته إلى أهله وأن يخبرهم بمكانه علّه يودعهم قبل موته، حيث ظهر إسلام فجأة بعد أربعة أشهر من الإختفاء القسري والتعذيب في نيابة شرق إسكندرية، وأنه في طريقه للترحيل إلى سجن “كرموز” سىء السمعة، إسلام ذو 26 سنة لم يتعرف أهله على يقاياه في بادىء الأمر حين شاهدوه في ممرات نيابة شرق اسكندرية أثناء ترحيله، وقد كان قبلا وافر الصحة مفعم الحيوية متوقد الذكاء.

شهادة إسلام خليل خرجت من بين مئات من القضايا المشابهة من خلف القضبان لتحيي الأمل من جديد في نفوس آلاف الأسر المصرية التي فقدت الأمل في العثور على أبنائها أو بناتها أو أرباب أسرها ومعيليها، لقد تسلل بعضا من أمل إلى نفوسهم بأن أبنائهم قد يكونوا على قيد الحياة، حتى لو كانوا تحت التعذيب! لكن وكما اعتقد إسلام عندما أخبر أخيه في ذاك اللقاء الخاطف قبيل الترحيل في أروقة نيابة اسكندرية، بأن شهادته تلك ربما تتسبب بالإنتقام من زملائه في الزنزانات الذين لا يعلم أهلهم عنهم شئا بعد، هذا إلى جانب عقابه مجددا بحرمانه من رؤية أهله يوماً.

لقد حاول إسلام التأكيد لأخيه بأنه هو وحده وأولئك المعذبون فقط من سيدفع ثمن تلك الشهادة، ليس الضباط الذين هددوه بهتك عرضه أو بالذهاب لمنزله وهتك عرض والدته وأخته…أو أمناء شرطة التعذيب بمبنى أمن الدولة في “لاظوغلي” الذي وصفه بأنه جهنم وبأن الموظفين داخله ليسوا بني آدمين أو بشر…يقول إسلام لأخيه أنه حاول في مرة من المرات الإضراب عن الطعام في لاظوغلي، ليس ليتخلص من التعذيب بقدر ما كان يريد أن يعرف فقط لماذا هو معتقل وعلى ماذا يعذب وما هي الأسئلة المطلوب منه الإجابة عليها!…لكنه اكتشف أنه لا وجود لشىء مماثل هناك، كالإضراب عن الطعام أو البحث عن إجابات!…حيث أخبره الضابط المسؤول بأنه ما إن يموت جوعاً حتى يرموا بجثته في أي مقلب للزبالة، أو أن يلفوا جثته ببطانية ويلقوا بها في الصحراء…أو أن يحقنوه بحقنة مورفين ويلقوا بجثته على ناصية أحد الشوارع حتى يقال عنه “مات ميتة كلاب”.

بالرغم من ترحيل إسلام إلى سجن “كرموز” وعلى الأقل بات الأهل يعلمون أين هو الآن، إلا أن أباه وأخاه اللذان أُختطفا معه، أحداً لايعلم عنهم شيئا بعد، وما إن كانا على قيد الحياة أم لا، علاوة على معرفة الأسباب الحقيقية وراء إختطافهم جميعا.

* * *

أسئلة غائبة حاضرة

كم بقي من شهادات كشهادة إسلام خليل كي تروي لنا صنوفا من الجنون المصري التاريخي، كم؟

متى يعي نظام عسكر مصر الذي حكم ومازال يحكم منذ ستون عاما بأن عدو مصر الحقيقي ليس من الشعب المصري؟!

يا إلهي!…هل فعلا يعيد التاريخ نفسه إلى هذه الدرجة من الدقة؟!

كم بقي لنا من إعادات للتاريخ قبل أن نتخطى تلك العصور المظلمة يا مصر ويا عسكر مصر، علنا ننتج إنسانا مصريا كالإنسان الأوروبي المعاصر كون أوروبا هي الأخرى مرت بعصور مظلمة؟

كم بقي لنا يا مصر من زمن العصور المظلمة هذا…كم؟

أقل شىء أطلبه الآن…إعطونا أمل.