عصير داعشي مُرَكَّز

تعودنا كثيرا في عالمنا العربي، أن تُحل المبهمات وخاصة تلك المتعلقة بالسياسة بعد سبعين أو ثمانين عاما من حدوثها على الأقل، هذا مع التفاؤل والإستعجال، بل إن الكثير من مبهمات سياسات أنظمتنا العربية وكذلك أحوال أمتنا الغريبة مثلا، والتي حدثت خلال الستون عاما الأخيرة، لكان لها أن تكون سلسلة من حلقات رائعة جدا بعنوان “أحاجي التاريخ المعاصر التي حيرت العالم” على تلك القنوات التي تعرض برامج مشابهة.

وآخر هذه الأحاجي كما تعلمون، والتي قد تكون ملهمة لصناع أفلام الخيال والرعب والإجرام والتشويق، لمئات السنين القادمة، هي أحجية ظهور “تنظيم داعش” والتي لم تجد لها مكانا آخر لتظهر به من هذا الكون الواسع الرحب، سوى عالمنا العربي! وبموضوعية شديدة التطرف! ظهر هذا النتظيم حربائي الشكل والهيئة؛ في الوقت المناسب لكل أعداء الأمة، بل ربما في الوقت المناسب لكل من كان يفكر يوما بأن يكون عدوا للأمة؛ إلا في الوقت المناسب للأمة
نفسها!

كتبت كثيرا عن داعش هذا، وربما قرأت عنه أكثر بكثير، لكني وكالغالبية، لم أتمكن بعدُ من فهم ماهيته وأهدافه بشكل واضح ونقي، لكن الشيء الوحيد الذي أنا متأكدا منه لهذه اللحظة، هو أنني ضد هذا التنظيم حتى لو ذهب هناك ليحارب لأجل تحرير فلسطين.

أذكر أن داعش كتنظيم، بدأتُ أسمع عنه في العراق الى جانب “تنظيم القاعدة” ومنبثقا عنه أيضا، وتحديدا عندما بدأت وسائل الإعلام تختصر إسمه الطويل جدا “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” الذي أسسه في باديء الأمر “أبو مصعب الزرقاوي” الى كلمة “داعش“، حقيقة ما زلت ناقما جدا على الإعلام، والعربي منه بالذات، حين يشارك في تنفيذ مبتغى داعش ومَن أيده، بأن يطلق عليه “تنظيم الدولة الإسلامية” لأنه سيؤسس في عقل أي شخص بأنه دولة، وبأنه اختزل الإسلام أمام العالم والأمة بماهيتة كتنظيم وبكل شيء مقيت تعلق به وبأفعاله يوما.

خلال هذه التدوينة، لن أسعى الى التحدث عن تاريخ داعش، بقدر ما سأسعى -قدر المستطاع- الى رسم خارطة ذهنية حول أهداف داعش وأفعاله على مر سنوات إستحواذه على المشهد الإعلامي اليومي العالمي، علَّني أقترب بكم من فك أحجيته قبل تلك السبعون عاما، وأدعو أولئك الذين يقفون بعقولهم وقلوبهم الى جانب تنظيم داعش ويرددون “باقي ويتمدد” وكذلك أولئك الذين يعتبرون أن داعش هو فقط من اخترع قطع الرؤوس والذبح والسلخ والذين يعتبرون “مكيافللي” رومانسيا الى جانبه كتنظيم، أدعوهم جميعا -المؤيدون والمناهضون- الى الوقوف في مسافة واحدة من هذا التنظيم، مخطيء منهم من يعتقد بأنني سأقف الى جانبه أكثر، على الأقل أثناء سرد الأحداث.

بداية وحسب رأيي المتواضع، فبالرغم من أن تنظيم داعش ظهر في العراق، إلا أن نشاطه الحقيقي والذي جعله يتصدر نشرات الأخبار العالمية، هو نشاطه داخل أتون الحرب السورية، لكن وبعيدا عن المشاعر، فقد ظهر داعش في مشهد الحرب السورية ليُفشل الثورة، لكنه وفي ذات الوقت حارب كل فصائل المعارضة السورية الى جانب محاربته الجيش السوري النظامي! لكن هدفه الأعظم في الحرب السورية كان تواجده دائما في تلك المناطق التي يسيطر عليها المعارضة وخلق تلك الفوضى العارمة، لم يُسجَّل أن تواجدا داعش في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، حتى أنه -التنظيم- حاصر مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، فمن المعلوم أن مخيم اليرموك يسيطر عليه فصائل فلسطينية تؤيد نظام الأسد، لكن داعش حاصر في النهاية الفلسطينيين العاديين القاطنين في المخيم والذين وقعوا في النهاية بين شقيّ رحى، الشق الأول حصار داعش، والشق الثاني الفصائل الفلسطينية التي أدخلت أهل المخيم في النزاع السوري عنوة، ونظام الأسد.

ثم ظهر تنظيم داعش فجأة في قلب الثورة الليبية، والمراقب لوجوده هناك يدرك تماما أنه كتنظيم وجد ليضعف قوات “فجر ليبيا” في الدرجة الأساس، والتي هي عبارة عن تحالف يضم “درع ليبيا الوسطى، وغرفة ثوار ليبيا في طرابلس، وميليشيات من مدينة مصراته، وميليشيات من مدينة غريان، وميليشيات من مدينة الزاوية، وميليشيات من مدينة صبراتة” كل هذه الميليشيات ضمن فجر ليبيا تقاتل ضد قوات “اللواء خليفة حفتر” الذي عاد من الولايات المتحدة الأمريكية بعد إنهيار نظام القذافي، لسرقة الثورة الليبية، خليفة حفتر، اللواء المنشق عن نظام القذافي والذي أصبح من أشد معارضيه حيث قضى سنوات طويلة هناك في أمريكا خلال حكم القذافي.

بالعودة الى فجر ليبيا، نجد هذه الميليشيات تقاتل قوات حفتر وبنفس الوقت هي من قوى المعارضة للحكومة الليبية الرسمية والجيش النظامي الليبي! ولا يخفى على أحد قرب اللواء حفتر من الرئيس المصري السيسي ونظامة، لذلك لم يكن لمصر أن تجد مبررا قويا لتتدخل في مشهد الحرب الليبية عسكريا الى جانب قوات حفتر وخاصة لضرب قوات فجر ليبيا وإضعافها، لم يكن ذلك لولا ذبح تنظيم داعش للأقباط المصريين هناك في ليبيا! لكن داعش وفي نفس الوقت يحارب النظام المصري الحالي من خلال إرتباط “تنظيم ولاية سيناء” به؛ فمن المعروف أن العمليات العسكرية المصرية في صحراء سيناء هي دائما ضد مسلحي تنظيم ولاية سيناء المرتبط بداعش، لكن أيضا وفي نفس الوقت فإن العمليات العسكرية المصرية الحالية هناك بسيناء الى جانب هدم القرى على طول الخط الحدودي لمدينة رفح المصرية مع الكيان الصهيوني، هي تماما عمليات كان الهدف الأول والأخير منها هو جعل الحدود المصرية مع الكيان منطقة آمنة خالية من كل شيء، الحجر قبل البشر! وهذا طبعا لصالح الكيان بلا شك، والدليل لمن أراد الدليل، هو تلك العمليات المشتركة بين الجيش المصري وجيش الإحتلال الصهيوني من خلال طائرات الأباتشي ضد أهداف لولاية سيناء، والتي هي في الحقيقة ضد أوكار الإرهابيين(…) والمجرمين! الذين يزعجون الكيان الصهيوني والنظام المصري الحالي!

لطالما سعت إسرائيل لإفراغ صحراء سيناء كل سيناء من البشر، والهدف قطع إمداد السلاح الى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة -العملية المفترضة ضمن الحسابات الإسرائيلية- تلك المقاومة التي لا تنفك تؤلم الكيان الصهيوني ومن لف لفه.

مجددا، وبالعودة الى أهداف داعش الملتوية، لم يكن للنظام المصري الحالي أن يقوم بعملية تمشيط لصحراء سيناء ضد الإرهابيين(…) المفترضين حسب الحسابات الإسرائيلية دائما، والذين يزعجونه ككيان صهيوني ويزعجون الرئيس السيسي، لولا ظهور داعش هناك بسيناء من خلال تنظيم ولاية سيناء! بالرغم من أن داعش إستهدف وما زال جنود مصريين وفرقاطة مصرية بصواريخه، ولا ينفك تنظيم داعش ينصب الفخاخ للجنود المصريين ليبدو وكأنه يعطي تلك المبررات القوية للنظام المصري الحالي أمام الشعب لإخلاء سيناء (ضمن تلك الحسابات الإسرائيلية) وتتزامن التصريحات الإسرائيلية التي تكون على ألسنة المسؤولين الصهاينة وتنشرها صحافتهم في الوقت المناسب، والتي تهدف الى زيادة رعب الشعب المصري من تنظيم داعش، من قبيل “تتنامى قوة تنظيم داعش في سيناء والتي تعتبر إختبارا حقيقيا لصمود نظام السيسي، أو من قبيل، تعتبر داعش سيناء تهديدا حقيقيا لإسرائيل ومصر” لكن الحقيقة أن عمليات الجيش المصري في سيناء ضد أولئك الإرهابيين الذين يزعجون الكيان والنظام المصري معاً، وليس ضد داعش! والهدف هو الإتيان على كل الذين يؤمنون بالقضية الفلسطينية وبمفهوم الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك أولئك التجار أو المهربون أو السماسرة أو الوطنيون أو الفدائيون -أياً كانوا- والذين يمدون فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بالسلاح، لقد سعى داعش بحرفية لتهيئة كل الظروف المناسبة لذلك، كيف لا وداعش الآن لم يجد سوى حماس ليهددها بالزوال عن الوجود، لم يهدد أحدا حماس بالزوال من الوجود من قبل إلا إسرائيل ومن ثم نظام الرئيس السيسي وها هو داعش الآن! حماس الشوكة الأضخم الآن التي تقف في حلق الكيان الصهيوني وكل الأنظمة العربية التي تعتبرها إسرائيل معتدلة.

مؤخرا، وبالرغم من دعم النظام السعودى للنظام المصري الحالي -والإنقلاب العسكري- حتى لو أظهر الملك سلمان مؤخرا إختلافا في سياسته تجاه النظام المصري الحالي، إلا أن داعش بدأ يتبنى عمليات إرهابية هناك في السعودية! معلوم أن ذلك ظهر تحديدا بعد “عاصفة الحزم” التي شنتها قوى التحالف العربي ضد ميليشيات الحوثي -الشيعية- في اليمن، إلا أن عمليات داعش -السني- في السعودية بدت وكأنها إنتقاما للحوثيين -الشيعة-، داعش يضرب في النظام السعودي الحليف للنظام المصري! السعودية والتي تعتبر أكبر دولة سنية، والتي تحمل معظم الطاقة السنية إن صح التعبير والذي من المفترض أن يكون داعش من أحد أهم أهدافه إستمالة مواطني العالم السني تجاهه!

لكن ربما أن داعش العراق هو الأكثر تميزا ووضوحا ضمن هذا المشهد الفوضوي الداعشي الذي شاهدتم، فداعش العراق بات واضحا الآن بأنه وجد لإخماد ووأد الثورة الشعبية السنية العراقية، فهو لم يتواجد إلا في المناطق السنية العراقية، ولم يُنكل إلا بأهل هذه المناطق ونفذ في حقهم مئات بل آلاف الإعدامات، لا بل ساعد الحكومات العراقية المتعاقبة من حكومة المالكي الى حكومة العبادي على تهجير أكبر عدد ممكن من سنة العراق، سواء ليصبحوا لاجئين داخل العراق، أو لاجئين خارجه، لكن وفي نفس الوقت فقد أُنشيء “الحشد الشعبي” الشيعي لمساندة الحكومة العراقية وجيشها في حربهم ضد داعش! ولا ينفك الجيش العراقي ينفذ عملياته العسكرية ضد داعش، والتي غالبا ما تكون نتائجها إما تقهقر الجيش العراقي أمام داعش، أو المزيد من التنكيل بأهل السنة على يد الجيش العراقي أو الحشد الشعبي في حال تم طرد داعش من بعض تلك المناطق السنية، أو أن يحدث كلا الأمرين معا.

التقرير الذي أعدته مؤخرا حكومة حيدر العبادي العراقية، والذي حمَّل من خلاله المسؤولية في سقوط الموصل بيد تنظيم داعش لرئيس الحكومة السابق نوري المالكي، حيث دافع المالكي عن هذا الإتهام قائلا “بأن هذا التقرير لا وزن له” لقد رمى نوري المالكي من وراء هذا الرد الى أنه لم يكن يملك زمام الأمور يوما، بل كان موظفا لدي “آية الله خامنئي” وبالتالي فإن قرار تسليم الموصل الى داعش كان إيرانيا بامتياز…هل يعقل أن يخرج داعش من سوريا الى الموصل بموكب كان طوله 3 كم تقريبا بكل آلياته الثقيلة ومعداته ودباباته وصوراريخه ويستغرق يوما كاملا، دون أن تراه الأقمار الصناعية الأمريكية صديقة وحليفة نظام المالكي وحليفة النظام الإيراني -من تحت الطاولة- وحليفة كل الأنظمة العربية المعتدلة(…) والتي تعتبر داعش عدوها الأول، هل يعقل ذلك؟!!!

تنظيم داعش -السني- لم نسجل له يوما أن قام بتلك العمليات المزدوجة المعايير إن صح التعبير، في مناطق يسيطر عليها الشيعة، لاحظ عزيزي القاريء، لا يوجد داعش في اليمن مثلا، سيما تلك المناطق التي يسيطر عليها الحوثيين! ولا داعش في باقي مناطق اليمن لتساند السنة في حربهم ضد الحوثيين الشيعة! لماذا مازال صعبا علينا أن نتصور وجود داعش في إيران مثلا؟!

نقطة النظام الوحيدة وسط كل هذه الفوضى، هو أنك تعتقد جازما الآن أن تنظيم داعش وجد لخلق هذه الفوضى، الفوضى بحد ذاتها، فوضى في المعايير، فوضى في المفاهيم، فوضى في الصدامات الفكرية، فوضى في الأهداف، فوضى في الولاءات، فوضى في التوجهات، فوضى في الإنتماءات، فوضى في الحروب، فوضى في العمليات العسكرية، فوضى في الشارع العربي كاملا، فوضى في كل شيء.

إذا هي الفوضى وصناعتها، الفوضى الداعشية التي تصنع عصيرا لذيذا للبعض وعصيرا مقززا للبعض للآخر، لكن، مالهدف من هذه الفوضى؟ ربما أنها المقدمة للتقسيم، إعادة تقسيم المنطقة، فسايكس بيكو القديمة لم تعد ذو فائدة الآن، هذا هو يا قوم، فوضى خلاقة من وجهة نظرهم يقودها “تنظيم داعش” الحربائي بكل حرفية ومهنية في سبيل التقسيم.

يحق لي ألآن أن أقف هناك وأقول ذلك، نعم يحق لي.

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>