الصباح والمغص أسفل البطن

أثناء فترة الطفولة والولدنة التي مررت بها، وعلى الأغلب معظم من هم في سني الآن، عشنا لحظات كان من أبرز أعراضها حدوث ذلك (المغص) الخفيف في أسفل البطن، تصاحبه لحظات من الإكتئاب السريع العابر والغبطة والخجل، أحيانا،  لكن ما كان يزعجني في تلك اللحظات هو المغص، والذي كان يترافق بلحظة لقائي بأحد أولئك الأطفال والأولاد في سننا، وكانوا يأتون مع ذويهم من بلاد الغربة في فترات العطل، أو الإجازات الصيفية. كان معظمهم إن لم يكن جلهم يأتون من دول الخليج، دائما ما تكون بشراتهم بيضاء ولباسهم جديدا ويوحي لنا بالفخامة، نظيفين، يملكون نقودا كثيرة مصروفا جيبيا لهم. كنا نراه ثروة ضخمة، كنا ننبهر بهم في بادىء الأمر، نحن المُعفَّرون بأتربة الحارة وغبارها، وألبستنا الشبه بالية، وأحذيتنا التي تحوي نوافذ وفرندات كثيرة، وبشرتنا السمراء المحترقة من الشمس، فيبدأ الأطفال المغتربون بممارسة مهنة الخُيَلاء والتكبر وإصدار الأوامر علينا بحذافيرها.

لكن، بالنسبة لي، كنت دائما، وفي كل سنة، ما إن أحتك بمثل هؤلاء الأطفال، حتى أكتشف أنهم مفرغون تماما، ولا يملكون معلومات كثيرة نملكها نحن. بل، كنت أحيانا لا أصدق أنهم في سننا نفسه. كنت أراجع نفسي، بعد مواقف كثيرة معهم، هل هذا في سني؟ غير معقول، يبدو أنه في الثالثة من عمره. الحمد لله أن أهلي غير مغتربين، وإلا بدوت أمام الآخرين أبلها كهؤلاء. الحمد لله، وسرعان ما يختفي عرض المغص هذا، وما يصحبه من أعراض أخرى وأعود الى طبيعتي.

أفتح مذياع سيارتي كل صباح، وأنا متجه الى عملي، عادة ما أتنقل بين قنوات محلية ودولية تبث بالعربية، فأنا لا أقوى على الجلوس لمتابعة الأخبار في المنزل، بل أتابع معظمها، على شبكات التواصل، أو في أثناء هذه الفترة الصباحية. لكن، في أثناء إنتظاري إحدى تلك النشرات الإخبارية المنتظرة، تكون هناك برامج صباحية منوعة على هذه القنوات. هنا، أجد نفسي مجبرا على الإستماع لمثل هذه البرامج.

مثل هذه البرامج تتنوع، من الإجتماعيات الى الطبخ الى الصحة. وغالبا، ما يكون هناك موجز عن دراسة علمية تدعم أحد هذه المواضيع. هنا، يجب أن أشعر بالمغص الذي كان ينتابني في فترة الطفولة، مع فارق بسيط أن لحظة الإكتئاب التي تصيبني هنا أيضا، ربما تمتد أياما، هذه المرة.

لكن أتعلمون شيئا؟ ربما أنكم اعتقدتم بأنني أتحسر هنا على حال البحث العلمي المتردية (كالغنمة النطيحة) في بلادنا العربية، كونه يتبادر الى ذهنكم فور ذكر جملة دراسة علمية، فهي لا بد أن تكون دراسة أجنبية غربية، صحيح ذلك، لكن مغصي هنا يا قوم على حال الأطفال الكبار الذين هم يعانون من درجة الحالة المفرغة والهوائية نفسها التي كان يعاني منها أولئك الصبية المتعجرفون.

أمثال هؤلاء المذيعون، أو الإعلاميون، يمارسون على مستمعيهم، ومن ضمنهم أنا طبعا، ما أسميته (الشو الإعلامي المفرغ)، ربما تكون هناك دراسة علمية عربية بالدقة نفسها أو ربما مبرهنة علميا أكثر (Evidence study) من تلك الدراسة أو الدراسات التي يستشهدون بها، والتي غالبا ما تكون غربية! لكن، يبدو أن شعور النقص تجاه الآخرين والغرب تحديدا، أصبح نهج حياة، حتى بت أشعر، أحيانا، أنه أمر يدعو الى التباهي والرفعة، فنطق إسم العالم أو الباحث الغربي ربما ألذ أو ذو حلاوة، وتعلوه طلاوة على ألسنة هؤلاء الإعلاميين. أشعر، أحيانا كثيرة، أن النقص والشعور به أصبح إلتزاما منا تجاه الغرب، وأنه عمل رسمي مؤسساتي! ولسان حال كل من حولي، كل من حولي بلا استثناء، كمن يقول، أكثر ما تستطيع إنجازه أن تكون عالة على العالم، حتى لو صنعت صاروخا، وذهبت به الى القمر.

إنظر أيضا صحيفة العربي الجديد

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>