لم يعد من مكان حتى لطائر السنونو

طائر السنونو على عشه الطيني

أحيانا أتوق لأن أكتب بعيدا عن السياسة والعنف والعصف الفكري الذي يدور ويدور حول الأحداث المأساوية التي تمر بها بلادنا الحزينة، أحيانا أشتاق لأن أكتب بعيدا عن الإقتصاد والمال والجشع.

هذه المرة سأكتب حول حدث بسيط بريء أطلَّ عليّ بالصدفة من بين جبال الحزن والألم الشاهقة الإرتفاع هنا من حولنا، شيء بريء بعث في نفسي وخاطري الكثير من الأمل والفرح والبساطة والإبتسامات في زمن بت أشعر به بعطش الإبتسام والضحك.

قبل يومين إحتجت لأذهب بسيارتي الى ما نسميه هنا في الأردن (بالبنشرجي) وهو الصانع الذي يصلح ثقوب عجلات السيارات، العم أبو أحمد صاحب المحل أتعامل معه كثيرا في حوادث مماثلة وهو أصلا كان مدرس للغة العربية في دولة الكويت قبل أن يعود الى الأردن إبان حرب الخليج الأولى، لماذا تحول الى هذه الصنعة؟ حقيقة لا أعلم لكن يبدو أنها أجدى إقتصاديا وربما أنها أرقى إجتماعيا أيضا! من مهنة المدرس في هذا الزمن الغريب الصعب.

يظهر محل أبو أحمد للبناشر

محل أبو أحمد للبناشر

أثناء تواجدي أمام المحل في إنتظار الإنتهاء من سيارتي لفت نظري طائر سنونو وهو يدخل الى المحل ويخرج، طائر السنونو لمن لا يعرفه ذاك الطائر ذو اللون الأسود والذيل الشبيه بعلامة النصر والذي يطير عادة بشكل بهلواني منخفض ومن بين الناس أحيانا! لذلك فهو كان يتخللنا نحن الواقفون أمام المحل والسيارات كذلك بشكل بهلواني جميل وهو في طريقه الى المحل، تعجبت الأمر وسألت أبو أحمد عن أمر هذا السنونو، فمسكني من يدي وسحبني الى داخل المحل وأشار الى السقف وإذا بعش ملتصق على حائط المحل ويقف على حافته ذاك السنونو ويطل من العش أربعة رؤوس فاغرة فاها كي تحصل على الطعام منه، هي فِراخ السنونو.

عش طائر السنونو على حائط المحل

عش طائر السنونو على حائط المحل

لم أصدق ما رأيت كان أمرا عجيبا، العش عبارة عن طين حيث أخبرني أبو أحمد أن زوجيّ طائر السنونو عندما حضرا لمعاينة المكان لبناء العش إذ راقبهم بدوره بذهول، حيث سقط في باديء الأمر القليل من هذا الطين على الأرض ليلتقطه أبو أحمد وإذا هو طين ممزوج بالقش! لقد أدرك هذا النوع من الطيور أن الطين لا يمكن أن يثبت أو أن يكون قويا إلا إذا مُزج بالقش تماما كتسليح الإسمنت بالحديد، ليس هذا فقط فالأمر الأشد عجبا هو عندما سألت أبو أحمد عن زمن بناء هذا العش؟ حيث أجابني أنه منذ أربع سنوات تقريبا…أربع سنوات؟!…لقد قال لي ما إن يبدأ فصل الربيع حتى يعودا زوجي السنونو هذين مجددا وهكذا منذ أربعة أعوام، هذا يعني أن سنونو أبو أحمد يختفي لثلاثة فصول هي الصيف والخريف والشتاء…ربما للهجرة.

طائر السنونو

طائر السنونو وهو على أنبوب بالقرب من السقف

المهم أن أبو أحمد أخبرني أنه وفي ذات ربيع فتح المحل ليجد طائر سنونو ميت على الأرضية تحت العش، حيث قال من الممكن أن يكون هذا الطائر إما الأم وإما الأب، لكن الغريب في هذا الحدث أنه وعندما عاد في الصباح التالي ليفتح محله وجد الفِراخ الصغيرة وقد قُذفت من العش لتموت من هول السقطة، حيث قال في نفسه أبو أحمد (لقد إنتهى عهد العش وعهد السنونو في المحل يا أبا أحمد) لكن…تفاجأ في نفس اليوم ليجد الطائر الوحيد وقد أصبح طائرين وقال لي حرفيا (يبدو أن الطائر المتبقي تزوج يا صديقي ولم يُرِد أن يخسر فصل الربيع وفرصة التزاوج والإنجاب لهذا الفصل) وبالفعل -يقول أبو أحمد- بت أشاهد طائر السنونو وهو يقضي ساعات في العش أي أنه يرقد على بيض جديد، وما هي إلا أيام حتى بت أسمع مجددا ذاك الزعيق الخافت لفراخ السنونو الجديدة.

بالرغم من الحزن الذي شعرت به على تلك الفراخ التي قُذفت من العش يوما إذ يبدو أن طائر السنونو لا يكرس نفسه لفراخ غيره، لا أعلم هل هو حال معظم الطيور أم لا؟ لكن الغريب أن طائر السنونو هذا شابه الأسد في طريقة عيشه القاسية أحيانا الذي يقتل أشبال اللبؤة التي فقدت زوجها كي يجبرها على التزاوج معه وتحمل بأشباله هو، أشباله التي تحمل جيناته، بالرغم من ذلك إلا أنني شعرت بفرح وسعادة كبيرين، صراحة لم أتوقع أن يحدثا لي من شيء مماثل، لكن ربما أنني كنت بحاجة ماسة لأن أعيش تجربة حقيقية مباشرة عن طير أحبه ولطالما راقبته وأنا صغير بتحليقه البهلواني المنخفض، تجربة تخرجني من رتابة عيشي اليومي بين العمل والضعط والإعتصار المؤلم الذي ينتابني في كل لحظة على حالنا وحال الأمة.

لست بحاجة للسفر الى جزر المالديف مثلا أو هاواي أو تايلند كالمترفين والمقتدرين هذا الصيف كي أُخرج نفسي من هذه الرتابة الخانقة وهذا الحزن القاتل، هي أمور بسيطة من حولنا بل غاية في البساطة لكنها تحتاج الى بعض من تأمل لهي كفيلة بإعادة شحننا بالإيجابية وقليل من السعادة والأمل.

 

 

 

4 comments on “لم يعد من مكان حتى لطائر السنونو

  1. سعد القرعان

    طائر السنونو اكبر عدو لمربي النحل لانه ياكل الملكات اثناء تلقيحها بالجو وانا اخسر اكثر من نصف الخلايا كل سنه بسبب انتشار هذا الطائر الجميل خاصه في وقت الربيع والصيف يا ريت الي عنده طريقه لمكافحته او ابعاده انه يعطيني الطريقه بكون ممنونلكم كثير
    صديقكم النحال من الاردن

    • قلبنا معاك أخ سعد لكن يبدو أن الطبيعة لها كلمتها في النهاية طبعا بأمر الله، لذلك لا تهكل هم فالله سوف يعوضك دائما خيرا

  2. قد نأسف لتلك الفراخ لكن حقيقة فإن معظم الحيوانات والطيور مبرمجة في افعالها إن صح التعبير، يا ليتنا برمجنا نحن البشر كي نختصر هذا الشر اللا متناهي.

    واحسرتاه على مكانة المعلم في بلادنا واحسرتاه، عندما سؤل رئيس الوزراء الماليزي السابق المهاتير محمد عن سر نهضة ماليزيا في عهده أجاب: ركزت على التعليم الأساسي حيث رفعت راتب المعلم كي يصبح مثل راتب الوزير هذا ما فعلته بالضبط.

    نعم هو بذلك جعل مخرجات بلاده من القوى البشرية والعقول في طليعة البلدان فقط من خلال إحترام المعلم الذي تفانى في إنتاج جيل فعال مبدع نهض ببلاده.

  3. فدوى حسين

    رائع جداً ما كتبت ولكني جد آسفة على تلك الفراخ الصغيرة وما تحمله من معاني
    فلماذا تحرم فرصة الحياة بموت أحد والديها ؟؟؟؟
    واحيي العم أبو أحمد وأقدر تخليه عن تلك المهنة المهانة في بلدنا والتي تتحمل أعباء أي خطأ في المجتمع الأردني.

Submit reply to بشار طافش Cancel reply

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>