حارس الحارة عبق الماضي بأصالته المتجذرة

صورة ابو جعفر حارس وسط البلد بعمان

تسير ليلا بين جنبات الأحياء الخافتة الإضائة المظلمة أحيانا، هدوء مخيف يتخلله حفيفُ الأشجارِ وبعض أصوات القطط المتصارعة على بقايا طعام يبدو وكأنه عظاما تضيء محاجره وهي تتلاعب به الريح تحت بعض من ضوء القمر، يجتاح جسدك قشعريرة خفيفة تفضح ما بداخلك من خوف ورهبة، ثمة ما يبعث في نفسك الطمأنينة عندما تنظر الى تلك الإضائة الخافتة البرتقالية أحيانا والزرقاء أحيانا أخرى من خلف ستائر نوافذ المنازل التي تمر بها في تلك الليلة من منتصف نيسان في أحد الأحياء الشعبية بمدينة عمان.

ثم يأتي ذاك الصوت المنادي على فجأة مبددا تلك الوحشة وتلك الرهبة…هاااي أنت لماذا تسير ببطء هل تبحث عن شيء ما؟

صورة لأحد أسواق وسط البلد بعمان فجرا

أحد أسواق وسط البلد بعمان فبيل الفجر وهي مغلقة

إنه حارس الحارة، تلك الوظيفة الغائرة في القدم والتي تعود الى مئتى سنة تقريبا، وظيفة إمتازت بها بلاد الشام بالذات ( فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ) لقد جُسدت هذه الوظيفة وكما يعلم الجميع في المسلسل السوري الشهير ذو الأجزاء العديدة “باب الحارة” الى يومنا هذا فإن هذه الوظيفة مُفَعلة تماما هنا في الأردن لكنها اقتصرت على تواجد حارس الحارة في الأسواق الشعبية بالذات وفي الحارات السكنية القريبة من تلك الأسواق وفي وسط المدينة أو كما نسميه هنا ” وسط البلد “.

حارس الحارة عادة ما يكون رجل شبه مسن من متقاعدي القوات المسلحة الأردنية عمره بين الخمسين والسبعين، يتمتع بصحة جيدة وحكمة عالية، إجتماعي ذو نفس طويل وهدوء أعصاب، يحظى باحترام الجميع الكبير والصغير الشيخ الرزين والبلطجي على حد سواء، مؤتمن وفي محل ثقة من الجميع عالية، هذه الثقة العالية لمستها مصلحة البلدية أصلا قبل أن توكل له تلك المهمة وإلا لما أوكلتها له، على دراية واسعة بسكان الحي وأصحاب المحال التجارية وتقريبا جميع مرتادي المنطقة أو الحارة التي يقوم بحراستها، أوقات دوامه الرسمي تبدأ من منتصف الليل وحتى الفجر، يتجول بشكل شبه مستمر بين جنبات الحارة يرصد أي تحرك غريب مريب أو جلبة ما، قد يحدثها متطفلون أو سارقون مارقون، لديه إتصال مباشر بدوريات الشرطة التي تجوب المدينة من خلال أجهزة معينة إن لزم الأمر، يرتدي زيا موحدا شبيه بالزي العسكري ذو لون أزرق غامق ” كُحلي ” مع ربطة حمراء غامقة “خمرية” على ذراعه، تماما كالتي يضعها كابتن الكورة، يعتمر على رأسه عادة الغترة أو كما نسميها هنا في الأردن “الحطة” أو الشماغ ويحمل عصى غليظة نسميها هنا “الدبسة” بطول المتر تقريبا أو أطول قليلا، لا يحمل أيا من الأسلحة النارية، هو بحكمته وحنكته ورباطة جأشه التي استقاها من خدمته الطويلة في القوات المسلحة واحترامه المفروض على الجميع يبدو وكأنه ليس بحاجة الى أي من تلك الأسلحة النارية أو العصي، صوته المنادي أو تلك السعلة المصطنعة أو حشرجته العالية “إحم” تكفي أحيانا كثيرة لإنهاء الأمر.

وسط البلد بعمان فجرا

جانب آخر لأحد أسواق وسط البلد بعمان فجرا

ألتقي الحارس أبو جعفر كثيرا في وسط البلد بعمان، أنا الذي أعشق عمانَ ووسطها العتيق ليلا، عندما ألتقيه يقوم بمصافحتى بقوة كبيرة كإيحاء منه على الصحة الجسدية والمعنويات العالية التي يتمتع بها، أجلس معه قليلا على عتبة باب من أبواب تلك المتاجر العريقة في وسط عمان نتجاذب أطراف الحديث عن الحال والأحوال وبعض من شجون الأمة، نشرب كأس شاي من باعة الشاي المتجولين، ثم أودعه وأتركه وفي نفسي خوفا على هذه الوظيفة المتجذرة في المشهد الشامي الأصيل العريق العتيق من أن يأتي يوما ولا أجدها.

 

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>