إنهيار الدولار الأمريكي

نقود أردنية و يورو

مقال نشر لي في صحيفة – رأي اليوم – إرتأيت إعادة نشره هنا في المدونة لتضمين الروابط التي من شأنها شرح بعض المصطلحات والمفاهيم الإقتصادية والتي تتيح فهم أوسع للقاريء.

أكتب في الإقتصاد أحيانا لأنه في لب تخصص دراستي الجامعية، ثمة من لا يدرك البتة أن حياته وفي أدق تفاصيلها اليومية أُقحمت بصورة أو بأخرى ضمن منظومة عالمية وضِعت أسسها هناك في أروقة المطبخ الإقتصادي السياسي الضخم في الإدارة الأمريكية للحيلولة دائما دون إنهيار الدولار الأمريكي أو سيطرته على شرايين الإقتصاد العالمي.

في البداية يجب أن نعرف لماذا يُطبع الدولار الأمريكي وما هي وظائفه الأخرى المختلفة كي نعي كيف أُقحمت حياتنا ومستقبلنا واقتصادات بلداننا في هذه المنظومة الشرسة المنزوعة الرحمة في سبيل إبقاء الدولار سيد الإقتصاد العالمي بلا منازع.

فهناك الدولار الذي يطبع من أجل ما يسمى “بالبترو دولار” فالدول المصدرة للنفط تتقاضى ثمن نفطها من الدولار الأمريكي الذي طبع لهذه الغاية، لا يمكن للدول المصدرة للنفط ومن ضمنها طبعا كل الدول العربية المنتجة للنفط لا يمكن لها أن تبيع نفطها بعملة أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أحد أسباب حرب الخليج وتوريط العراق وصدام حسين بها كان تخلي الأخير عن تقاضي الدولار الأمريكي كثمن لنفطه! حيث لجأ صدام حسين لسلة عملات، لكن وفي اليوم التالي لإتخاذ هذا القرار إحتلت أمريكا العراق، خاصة أن الأخير لم يجد وقتها أي دولة عربية وبالذات من دول الخليج المنتجة للنفط كي تقف معه في خطوته الجريئة والمصيرية هذه لمحاربة أمريكا من خلال التخلي عن دولارها المسيطر.

الوظيفة الثانية لطباعة الدولار هي من أجل تزويد السوق العالمي به وسوق المبادلات التجارية الدولية، فالدولار يفوق الآن بأهميته كمخزون أو إحتياطي في البنوك المركزية للبلدان إحتياطي الذهب، فالعملة الرئيسية لتلك المبادلات التجارية الدولية هي الدولار الأمريكي، فمنذ معاهدة “بريتون وودز Bretton Woods” في يوليو/تموز 1944 في غابات بريتون نيوهامبشر في الولايات المتحدة الأمريكية أصبح الدولار الأمريكي عملة رئيسية في نظام الصرف الأجنبي الى جانب الذهب، حيث ثبت نظام العملات في نظام ثابت للصرف الأجنبي بنسبة تذبذب 1% للعملة بالنسبة للذهب أو الدولار الأمريكي.

لكن في الحقيقة فإنه ومنذ عام 1930 بدأ يتناقص دور الذهب في أنظمة النقد العالمية، حيث اختفى تأثيره في أواخر سبعينيات القرن الماضي وتم استبداله تدريجيا بنظام جديد يسمى “بنظام التثبيت” إذ أن الغطاء الذهبي على الدولار الأمريكي تم إلغاؤه! وأصبحت القيمة الإسمية للعملة الورقية هي المقياس وباتت مبنية على مفاهيم “القرض وثبات الفائدة وضمان الأموال”.

ومن هنا يمكن لنا أن نفهم قليلا كيف تدخل الدولار الأمريكي ضمن المنظومة العالمية بأدق تفاصيل حياتنا اليومية سيما البؤس منها، البؤس بكافة أشكاله التي يمكن لكم أن تتخيلوه من ضنك العيش الى الحروب الغير مفهومة! لقد عرض الدولار الأمريكي الرأسمالي عملات الدول التي ارتبطت به الى التضخم والى عدم ثبات أسعار صرف العملات الأجنبية الأخرى في حال تم تضمينها لسلة عملات في البنوك المركزية لهذه البلدان! كما زاد من نسبة الإنفاق الحكومي لهذه البلدان دون جدوى تذكر، فاستمرار إرتباط العملات المحلية وتقييم صرفها بالذهب كان لِيَضمن وبشكل كبير وفعال كبح تضخم تلك العملات ويقلل الإنفاق الحكومي ويثبت أسعار صرف العملات بين الدول التي تتبع ربط الذهب كنظام لتقييم عملاتها أيضا، غير أن الدولار ومنظومته العالمية أتلف ذلك الآن، لا بل إنه أفقر العالم لصالحه فمثلا كان سعر صرف أونصة الذهب عيار 24 قبل سبعين عاما تقريبا 35 دولار أمريكي بينما نجد الآن أن سعر نفس الأونصة في العام 2015 للحظة هي تقريبا 1200 دولار أي أنه نسبة وتناسبا نجد أن قيمة الدولار الحقيقية اليوم هي “واحد سنت” أي واحد على مئة من الدولار، بهذا الشكل تم سرقة مقدرات واحتياطيات الشعوب والقوة الشرائية لعملات تلك الشعوب التي ارتبطت عملات بلدانها ومعاملاتها التجارية الدولية بالدولار الأمريكي.

يُتوقع أن تقود الصين العالم في الألفية الثالثة هذه، لكن وحسب رأيي فلو حدث ذلك فإنه لن يكون مستمرا لأسباب عدة قد نخوص فيها في مقالات أخرى، من ضمن هذه الأسباب هي المنظومة العالمية للدولار الأمريكي إلا في حال واحدة وهي إنهيار هذا الدولار بمنظومته وفي المقابل عندما تكون تعمل كل الدول التي ارتبطت به على الخلاص منه ضمن خطط إقتصادية محكمة وفعالة في حالات مماثلة، إنظر مثلا الى الصين مجددا تملك الصين اليوم معظم الدولار الأمريكي وهي الآن من أكبر الدائنين للولايات المتحدة الأمريكية من خلال ميزانها التجاري وحاولت الصين هنا رفع قيمة الدولار الأمريكي لكي تحافظ على مستوى صادراتها وغلبة ميزانها التجاري وقيمة إحتياطياتها الصعبة، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بإقرار ما سمي بقانون “Easy Finance” ضمن منظومة الدولار تلك إذ طبعت 600 مليار دولار أمريكي من أجل إبقاء سعر صرف الدولار منخفضا لتعديل ميزانها التجاري مع الصين، بحيث أن الصين الآن تفقد من قيمة العملة لديها من الدولار في كل ثانية!

الوظيفة الثالثة للدولار الأمريكي هي طباعته لأجل إحتياجات السوق المحلية الأمريكية منه وخدمة الدين العام لديها المتأتى ضمن سندات عامة تصدرها الخزانة الأمريكية تجاه الشعب الأمريكي بفائدة ثابتة، وأيضا لأجل الواردات، هذه الوظيفة تبدو وكأنها خارج المنظومة العالمية للدولار فهي تختلف كليا عن الوظيفتين السابقتين غير أن ذلك ما يعطي قوة إضافية ومؤثرة وفعالة للغاية في سبيل إبقاء الدولار مسيطرا على العالم من خلال الحفاظ على قوة وتماسك الإقتصاد الأمريكي، فأنتم لاحظتم كيف أن الخزانة الأمريكية لا تقترض إلا من الشعب الأمريكي من خلال السندات المذكورة، كما أن الإقتصاد الأمريكي يعتمد في قوته على السوق الأمريكية المحلية بالدرجة الأساس، وفي حال حدثت أي أزمة إقتصادية وهذا أمر طبيعي فإنه لن يكون تأثير ذلك محليا فقط أي في الداخل الأمريكي، كيف لا وما سمي “بأزمة الكساد العظيم” التي حدثت في بداية ثلاثينيات القرن الماضي واستمرت خمس سنوات هي أزمة أمريكية أصلا لكنها صُدرت الى باقي أنحاء العالم من خلال الدولار الأمريكي، كذلك “أزمة الرهن العقاري” في العام 2007 “الأزمة المالية العالمية” هي أزمة أمريكية ظهرت نتيجة تسهيلات المنتجات الإئتمانية في سوق الرهن العقاري الأمريكية ثم صدرت الى باقي أنحاء العالم والتي ما زال العالم يعاني من تبعاتها الى اللحظة.

قد يكون خيار صعب لباقي دول العالم عندما تفكر مليا بجعل الدولار الأمريكي على حافة الإنهيار للتخلص من سيطرته، حيث أنها تدرك تماما بأن الفاتورة التي قد تدفعها ربما تكون فوق التصور او فوق ان تحتوى بخطط إقتصادية، لنتصور الآن أن إبقاء منظومة الدولار الأمريكي العالمية هذه قائمة، ربما المسؤول الأول أو الأكبر على الأقل عن معظم الحروب التي شهدناها وربما سنشهدها، لنتصور أيضا أن أي حرب من هذه الحروب الدرائرة رحاها حاليا هناك من يقتطع جزءا من فوائدها لكن ربما أن أكبر المقتطعين كما عودنا التاريخ دائما هو الدولار الأمريكي، فبينما يعتقد البعض بأن الحروب تأتي بخسائر الى كل أطراف النزاع حولها، إلا أن المبدأ الإقتصادي يقول ” ما دام هناك خاسرون هناك رابحون” إذا ستشن الحروب والمزيد منها وربما ستفتعل النزاعات وتغذى الصراعات حول العالم ما دام الدولار الأمريكي غير قابل للإنهيار حاليا.

 

2 comments on “إنهيار الدولار الأمريكي

Submit comment

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>