تونس والمفاجأة الكبرى

لقطة ليلية لزاوية من البلدة القديمة في تونس العاصمة

حلقت طائرتنا فوق تونس العاصمة تمام الساعة الحادية عشرة ليلا قادمة من القاهرة، كان قلبي يخفق بشدة…سوف أرى تونس الخضراء وأشتم هوائها خلال لحظات ولأول مرة بحياتي.

لمحة خجولة

أخبرنا الطيار على الخطوط التونسية بأن درجة الحرارة في تونس العاصمة إثنتي عشر درجة مؤية حيث أردف، السماء صافية والجو لطيف، كان الطاقم والذي ضم مضيفتين وكابتن مضيف رائعا ومضيافا وبشوشا جدا، لكن في الحقيقة لقد تنفست الصعداء بعد أن حطت الطائرة على أرض المطار حين قام أحد المضيفين بجر عربة في منتصف الرحلة حملت شتى أنواع المشروبات الروحية مقابل دفع الثمن لمن أراد حيث قُلت في نفسي حينها ( الله يستر) لكن لا أخفيكم أنني قمت بالنظر الى الموضوع من زاوية أخرى، إذ أدركت تماما مدى إتزان وحنكة من حكموا تونس خلال فترة ما بعد الثورة -ثورة الياسمين- إذ أنهم كانوا ضمن نسيج كامل من التونسيين والذين أعطوا مثالا رائعا للعالم ولبلدان الربيع العربي في تخطي كل الصعاب الى حد الوصول الى إنتخابات نزيهة وتداول رائع للسلطة مع بعض التحفظات والتي قد تخجل أمام الإنجاز التونسي.

خرجنا من المطار بسهولة ويسر تامين، لم يكن هناك اكتظاظ يذكر ربما لتأخر الوقت، في المطار قمت بتصريف بعض من اليوروهات التي أمتلك الى الدينار التونسي، خارج المبنى الرئيس لمطار قرطاج الدولي كان عددا من سيارات التاكسي والذين ردوا على استفساراتنا بكل احترام وإجلال، كان حجزي في فندق البليفدير ذو الأربع نجوم والذي يقع في شارع الولايات المتحدة الأمريكية، ربع ساعة فقط تفصله عن المطار، تقريبا يقع الفندق في وسط المدينة، لم أكد أستمع جيدا لاستفسارات السائق حول هويتي وماذا أعمل، فقد كنت منهمكا بالنظر الى تونس…فأنا أعشق الذهاب الى المدن الجديدة والتي لم أطأها من قبل، أريد أن أدقق في كل زاوية.

في الصباح التالي كان من المتوجب علي أن أكون في قاعة الإستقبال في الفندق تمام الساعة الثامنة والنصف، لم يسبب لي ذلك مشكلة فأنا أتوق الى الخروج كي أرى تونس ومبانيها البيضاء الناصعة، كان صباحا رائعا جدا سأذكره طالما حييت، حيث قمنا بالذهاب مشيا على الأقدام الى المكان المقصود كي نتلقى تدريب قد دعينا له من قبل القائمين على موقع مدونات عربية بدعم من france24، تعرفت وقتها على المشرفين على الموقع والمؤسس وصحبة رائعة من المدونين والصحافيين من شتى البلدان العربية.

مبنى بتونس العاصمة من عهد الإستعمار الفرنسي-بشار طافش

مبنى بتونس العاصمة من الطراز الفرنسي القديم-منطقة باساج

كنت في تلك الساعة كمن يسير فوق السحاب، لم أشأ أن نصل الى الموقع في منطقة باساج والتي تعني بالفرنسية ( العبور) كالقاهرة تماما إرث الإستعمار الفرنسي واضح من خلال اسلوب العمارة الفرنسية في تلك المباني التي لم أشبع من النظر اليها وهي ممتزجة بالطابع التونسي الرائع وهو اللون الأبيض، كان نظري يجول بين المباني الفرنسية الطراز وبين وجوه التونسيين والتي تنم عن جدية في كلا الجنسين فهناك تنتظرهم أعمالا تستوجب الجدية فمنهم من بدى عليه موظف بنك ومنهم من بدى عليه بائع في محل ومنهم من بدى عليه موظف في شركة كبرى ومنهم من بدى عليه منهكا من الليلة السابقة فهو يبدو أنه لم يأخذ القسط الكافي من الراحة عمله بسيط وطويل وغير مجدي، لكن الكل جدي.

تشابه أخوي…جيني

مررت بكافة أنواع المحلات، لكن كان أكثرها محال الألبسة والأحذية -ربما أن منطقة باساج امتازت بذلك- لكن هذا ما رأيته في القاهرة وعمان ونابلس والقدس وطرابلس الغرب وبنغازي والكرك وكل مكان من الأمكنة العربية التي زرت، أيضا محال الإتصالات والبقالة وبعض من محال الألبسة الأوروبية المستعملة، بالنسبة للألبسة الأوروبية المستعملة فقد أعتبرت ذلك تشابه أخوي جيني يفوق التشابهات الأخوية الأخرى، اشترك به كل الرؤساء والملوك والأنظمة العربية كي يميزونا به عن باقي بلدان العالم وخاصة المتقدمة منه ( ياخي تَشعر وأنه إلتزام شرف من قبلهم تجاهنا).

مقطع جانبي لمباني أثرية بمنطقة باساج-تونس العاصمة-بشار طافش

ناحية من منطقة باساج-تونس العاصة

مررت بالبسطات على أرصفة الشوارع -نفس المعروض على تلك البسطات في عمان أو القاهرة هوَ هوَ على تلك البسطات في تونس تخيلوا ما شئتم أن تتخيلوه- مررت أيضا بالمقاهي مقاهي تقدم الشاي التونسي المميز والقهوة وخاصة القهوة السبرسو ومقاهي تضيف الى ذلك النارجيلة أو الشيشة، مقاهي ملتزمة بداخل المحل ومقاهي وضعت الكراسي والطاولات على الأرصفة بحيث المارة يعبرونها، تماما كالقاهرة ونابلس والعقبة والناصرة وبيروت.

عامل مقهى بتونس

عامل مقهى بتونس يصنع قهوة السبرسو الشهيرة

ميز تونس أن معظم الشوارع الفرعية التي مشيت بها كانت تضم إتجاه واحد للسير يتخلل بعضها خط ( الترام ) قطار المدينة، في الحقيقة هذا شيء أعجبني فهو يقلل من الإختناقات المرورية وازدحام الركاب صباحا، لمست فاعلية في حركة نقل الركاب فهناك الترام والباص والباصات الكبيرة جدا والتاكسي، ربما شابه ذلك القاهرة وإسطنبول وكثير من المدن الأوروبية.

جزء من منطقة باساج تونس-بشار طافش

ناحية يظهر بها جمال المباني الأثرية-باساج-تونس

وصلنا اخيرا بعد مسير عشرون دقيقة تقريبا الى المكان الذي ستجرى به الدورة التدريبية، كان مبنى قديم من تلك المباني الفرنسية الطراز لكن ما أشعرني بسعادة أكثر هو ذلك المصعد القديم جدا والذي أكد لنا أحدهم أنه من العهد الفرنسي، كان مصعدا مكشوفا تماما كالذي كنا نراه ورأيناه في الأفلام المصرية، مصعد صغير ضيق بالكاد يتسع الى ثلاثة أشخاص، لكنه حملنا مرارا وتكرارا الى الطابق الرابع وبكل سلاسة حيث الدورة التدريبية.

كانت دورة تدريبية على درجة عالية من المهنية والتنسيق الرائع والمفاجيء صراحة، لقد تخلل التدريب والذي كان يستمر يوميا قرابة التسع ساعات بدءا من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء لقد تخلله استراحات قهوة وغداء، هي الأوقات التي كنت أخرج بها الى شرفة الشقة والتي كانت تطل على منطقة باساج كاملة تقريبا ويظهر أيضا حديقة عامة رائعة على يمين المبنى ومن تحتنا الشارع الطويل الممتد والذي يُظهر خط الترام وحركة المارة النشطة جدا والمستكينة الرزينة، كنت أُمعن النظر بعيدا كي أُحيط بكل ما يمكن أن تراه عيناي ورغم ضيق الأفق وضيق الوقت إلا أنني كنت سعيدا جدا بوجودي هذا.

مفاجأة…وتناقض جميل

لابد من ممارسة هوايتي في مثل هذه الظروف وهي الخروج وحدي ليلا، لكن الحقيقة هي أنني خرجت مرتين وحدي ومرة مع صديق لي قدم معي بالصدفة من الأردن كي يعطي محاضرات في مجال التجارة الدولية لبعض البنوك، ومرتين مع مجموعة المدونين ومشرفي الموقع الرائعون.

كان مشوارا طويلا من التسكع والهدف منه أيضا التعرف على المحال والأسعار لكني لم أتعرف على الشيء الكثير حيث أن تونس تعتمد العادات الأوروبية في غلق المحال مبكرا أي حوالي السادسة وأحيانا الثامنة مساء، لكن يبقى هناك الكثير من المقاهي وبعض الحانات التي تقدم الى زبائنها المشروبات الروحية، قد يَعتبر البعض أن ذلك حرية شخصية أو انفتاحا، ليس ها هنا الموضوع، الموضوع هو إنتشار هؤلاء السكارى في الشوارع هنا تكمن الخطورة، الكثير من الدول العربية تتيح بيع الخمور ومنها الأردن، لكن المتسكعون في الشوارع من السكارى كان شيئا صادما بصراحة من شعب مثقف راقي ونسبة الأمية به هي الأقل بين بلدان المغرب العربي، هي ليست بالظاهرة المتفاقمة لكن لم أرى كمثلها في بلدان عربية أخرى على الأقل من التي زرتها، لكن أعاود مجددا للنظر الى الموضوع من زاوية أخرى كما فعلت بمشروبات الطائرة الروحية، هناك نسيج مميز في تونس الأمر الذي سيقودها يوما الى التغيير الحقيقي.

زرت الناصرة بفلسطين المحتلة بلدي الأول وزرت نابلس والقدس المحتلتين وزرت البلدة القديمة بطرابلس الغرب المدينة التي أتوق لزيارتها مجددا، وليبيا البلد الذي من علي بشهادة البكالوريوس في علم الإقتصاد، وكذلك مدينة السلط في الأردن بلدي الثاني الذي أعشق، وأخيرا البلدة القديمة في تونس العاصمة، لقد دُهشت من درجت التشابه العميق حد التوأمة بين مثل هذا الطراز من البلدات، أحسست وأنا أسير عبر أزقة ودخلات البلدة القديمة في تونس العاصمة وكأنني أسير في البلدة القديمة في نابلس أو الناصرة تماما، نفس القنطرات نفس المحال نفس الأزقة ونفس الرائحة والهواء والطمأنينة نفس الأناس، ياااااااااااه من مزقك أيها الوطن الكبير البعيد الممتد…من؟

البلدة القديمة في تونس العاصمة وجمال قنطراتها

البلدة القديمة-تونس العاصمة-وتظهر روعة قنطراتها

لم يتح لي صراحة الذهاب الى المسجد أثناء الدورة التدريبية، لم يكن بمقدوري أن أوقف الدورة كي اذهب للمسجد، وأعترف أيضا أنه وفي بلدي ورغم توفر الوقت فإنني لا أذهب في غالب الأحيان الى المسجد بل أصلي لوحدي، لكن أحب أن أدخل مساجد مدن جديدة أيضا، في يوم الجمعة وهو اليوم الأخير من التدريب إستأذنت وذهبت الى صلاة الجمعة، كان الجو ماطرا بل وأحيانا ماطرا بغزارة وما إن وصلت المسجد حتى وجدته ممتلئا عن آخره حتى أن المصلين افترشوا الأرصفة والشوارع المحيطة به وتحت المطر.

إنه مسجد الفتح بمنطقة باساج، إنتهت الخطبة وبدأت إقامة الصلاة وهم المصلون بالإصطفاف، حينها لم أجد لي مكانا على الرصيف فاستسلمت ورفعت كفي كي أكبر تكبيرة الإحرام كي أصلي مكاني المطر من فوقي والطين من تحتي وإذا بمسنين ينادياني من خلفي حيث أفسحا لي قليللا من على سجادتيهما وصلينا ثلاثتنا تحت المطر لكن على بعض من سجادتين.

هذه تونس التي اكتشفت ورأيت خلال بعضا من أسبوع، نسيج متناغم لا يمكن تفكيكه، نسيج قوي متين متنوع يرحل منه إليه وبين جنباته من شاء من أبنائه، اللهم احفظ تونس وأهلها.

 

 

5 comments on “تونس والمفاجأة الكبرى

  1. زوز تي باللوز
    ههههههههههههه
    من أروع ما وقع على أذني

  2. أوافقك الرأي أخي العزيز بشار مدينة تونس من المدن الرائعة لثد استمتعنا كثيرا وسعدت برفقتكم ونحن نتجول ليﻻ في ازقتها. وتذوقنا لتي باللوز عندما طلبنا زوز تي باللوز. تحياتي لك.

  3. تعليقاتكم أكثر من رائعة فدوى وفداء
    لكني متفائل بعض الشيء حيث ان التغيير لا يكون بين ليلة وضحاها، فالثورة الفرنسية على سبيل المثال بقيت مئتي سنة حتى ركدت التربة من تحتها لتنتج في النهاية الإنسان الفرنسي ضمن المجتع الأوروبي الناجح.

    لكن لا أخفيكم بأنني أشعر بمرارة شديدة لحال عروبتنا، فسايكس بيكو رسم الحدود على الأرض ونحن قمنا بحفرها في قلوبنا للأسف.

  4. جميل جدا سؤالك اخر المقال
    من مزقك ايها الوطن العربي ؟
    مزقنا برأيي الخاص جهلنا وان فكرنا ، فكرنا للأسف باسباب اخرى تعزز فرقتنا .
    مزقنا وسيمزقنا جهلنا مرارا وتكرارا ودائما لا نكتفي بالبحث عن اسباب الفرقه بل ان نجحنا او نجح الاخرين بتعزيزها لدينا نحاول جاهدين الاحتفاظ بها.

  5. فدوى حسين

    وصف رائع جدا لبلد اروع وبصراحةيشوقنا لزيارته
    فرحت كثيراً عندما وجدت أننا العرب نتقاسم
    بعض الصفات كما قلت في أشكال المقاهي والشوارع وكذلك الملابس الأوروبية وكأنك تؤكد أيها الكاتب على عروبتنا التي للأسف بدت في تلك المظاهر
    لا تعتبر ذلك انتقاد لكنه أسى تشوبها الاه لبعض أحوالنا العربية والتي أتمنى أن تتغير

Submit reply to فدوى حسين Cancel reply

Allowed HTML tags: <a href="http://google.com">google</a> <strong>bold</strong> <em>emphasized</em> <code>code</code> <blockquote>
quote
</blockquote>